IMLebanon

الحريري يُعيد زخم مبادرته… مِن بيروت

المشكلة أنّ مسافة زمنية لا بأس بها لا تزال تفصل عن الحرب الجدّية للقضاء على «داعش» وتقاسم «إرثها»، والمقصود هنا بالطبع بدء الحرب البرّية. وغداة التفجيرات الارهابية التي هزّت باريس كان لافتاً الموقف الصادر عن رئيس اركان الجيش الفرنسي عندما اكد أنّ القضاء على «داعش» سيحصل وأنّ القرار اتُخذ ولكنّ ذلك سيأخذ بعض الوقت قبل بدء العملية.

أهمية الموقف العسكري الفرنسي يكمن في أنّه يشكل السقف الصريح لواقع «داعش» في فترة كان فيها المجتمع الفرنسي في أقصى استعداداته ومطالبته بأيّ خطوات انتقامية.

والموقف العسكري الفرنسي يتطابق مع الموقف العسكري الأميركي وحتى البريطاني الذي أرسل طائراته للمشاركة في الغارات الجوّية وحجز مقعد لبلاده في الترتيبات الجاري تحضيرها للمنطقة.

صحيحٌ أنّ القرار بعدم مشاركة الدول الغربية في العمليات البرّية هو قرار نهائي لكنّ الترتيبات قائمة لتشكيل القوة التي ستتولّى المعركة البرّية من دول إسلامية مختلفة. المشكلة في تنسيق هذه القوى الحصص فيها ومواقع انتشارها وقتالها.

قيادة تنظيم «داعش» أدركت أنّ المرحلة لا تزال مبكرة قبل الشروع العسكري الجوّي ضدّ التنظيم الإرهابي وهو ما يُفسّر الى حدٍّ ما تراجع وتيرة العمليات الإرهابية في العالم.

وفي هذه المرحلة تعمل الدول المختلفة على تحسين حصتها وحضورها في المرحلة المقبلة، ولا يمكن تفسير الصراع الحاصل ما بين موسكو وأنقرة إلّا في هذا الإطار.

ذلك أنّ روسيا التي باشرت باستبدال «خدمات» تركيا بخدمات إيران لناحية رسم طريق جديد الى المياه الدافئة أطول، ولكنها أضمن من خلال بحر قزوين فإيران فالعراق وسوريا (بعد إنهاء «داعش») وصولاً الى القاعدة الروسية في طرطوس.

وقد باشرت موسكو تعزيزَ حضورها العسكري البحري لناحية إرسال غواصة حديثة متطوّرة ولو أنها تقليدية (غير نووية) بما يؤشر الى طول البقاء والحرص على اعتبار الممرات البحريّة انطلاقاً من الشاطئ السوري مصلحة روسية حيويّة.

وذلك يقضي بالتأكيد على آمال تركيا في إقامة المنطقة العازلة شمال سوريا والتي تعني ضمناً فرض رقابتها على الطريق الجديد الذي تحاول موسكو تكريسه.

في المقابل، تتقدّم واشنطن خطوة خطوة في مجال نشر قوات لها في مناطق ونقاط محدّدة وحساسة تسمح لها لاحقاً بالإمساك بمفاصل جغرافية، وهي في الوقت نفسه تعمد الى توجيه رسائل ناريّة لضبط الإيقاع مثل قصف موقع للجيش السوري فجأة.

لكنّ الصراع الخطر ما بين روسيا وتركيا محكوم بسقف الهيبة العسكرية الروسية تاريخياً ولو أنّ واشنطن تحاول شدّ أزر تركيا من خلال حلف شمال الأطلسي.

ذلك أنّ أحد مراكز الدراسات تحدّث عن وقوع 17 اشتباكاً عسكرياً بين الدولتين خلال القرون الخمسة الماضية فازت روسيا فيها كلّها. وقد يكون للاشتباك الجديد حوافز بأبعاد داخلية أيضاً مع سعي واشنطن الى تأليب طبقة التجار والاقتصاديين على الرئيس رجب طيب أردوغان بعدما شكلت أحد ابرز مرتكزاته الداخلية وهو الساعي لتوسيع مساحة هيبته وقوّته وصولاً الى تعديل الدستور.

باختصار، فإنّ المرحلة التحضيرية قبل ولوج مرحلة الترتيبات الفعلية تنعكس غموضاً وتردّداً على الواقع اللبناني، فكانت «تسوية فرنجية الرئاسية» أبرز ضحاياها. صحيحٌ أنّ النوافذ التي فُتحت على خفر سمحت بولوج هذه التسوية، لكنّ ضبابية المشهد الإقليمي بدَّد أيّ نتائج عملية ومثمرة لها.

لذلك يبدو الرئيس سعد الحريري مصراً على إعادة طرح التسوية مجدَّداً بعد تجاوز المرحلة الحالية والمخصّصة لامتصاص ردود الفعل السلبية على ما يروي قريبون منه.

وهؤلاء يؤكدون أنّ الحريري سيعود خلال أيام قليلة الى بيت الوسط حيث سيترأس جلسة لكتلته النيابية يعلن إثرها تأييد ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية، والهدف هو إعادة إطلاق المبادرة بزخم داخلي أكبر.

لكنّ مهمة الحريري بجزئها الثاني لا تبدو سهلة أو ميسّرة. فرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ردّد أمام زوّاره في الأيام الماضية أنّه لن يقبل بوصول فرنجية بأيّ شكل من الأشكال وأنّه يترك مسألة ترشيحه العماد ميشال عون بمثابة الخرطوشة الأخيرة التي سيستعملها لإجهاض خطوة ترشيح فرنجية. ويكثر جعجع في حديثه عن عدم وجود قرار سعودي بتبنّي خطوة الحريري بل فقط هناك موافقة من بعيد.

كذلك لم يُبدّد لقاء الامس الغيوم الكثيفة بين عون وفرنجية على رغم تكرار الرجلين وجوب البقاء سوياً مستقبلاً. اللقاء هدف الى الحفاظ على شكل العلاقة أكثر منه التفاهم بالعمق.

فرنجية قارب الملفّ السياسي من زاوية أنه لا يجب استنفاذ كلَّ فرص عون لكن في حال لم يتحقق ذلك فلا يجب تضييع هذه الفرصة على «فريقنا السياسي»، خصوصاً إذا كانت التسوية الدَولية لمصلحة أحد منا. لكنّ عون الذي كان ودوداً لم يعطِ أيّ جواب في هذا المضمار، بما معناه رفضه. اللقاء الذي حضره الوزير جبران باسيل قارب نصفَ الساعة لكنّ النقاش السياسي لم يدم أكثر من عشر دقائق.

أما «حزب الله» الذي يقارب المسألة من زاوية استراتيجية ومصيرية، فهو مطمئنّ لعلاقته مع كلّ من طهران ودمشق، ومتمسّك بأولوية النظام السياسي على أيّ شيء آخر بما فيه الانتخابات الرئاسية. هو يريد الشروع في ورشة ما بعد «الطائف» ويعارض في الوقت نفسه عودة الحريري الى رئاسة الحكومة لإمساك البلد مجدَّداً وكأنْ لا شيء حصل في سوريا.

وفيما تؤكد الأوساط القريبة من الحريري أنّ ما يحدث حالياً استراحة قبل انطلاقة جديدة أقوى، فإنّ الفريق الآخر لديه رأيٌ مخالف: التسوية أُجهضت والحريري مضطرٌ لانتهاج هذا السلوك لاستيعاب التداعيات السلبية عليه.

فالجهات السياسية الداخليّة المتحالفة معه إضافة الى الجهات الدولية أخذت على الحريري التسرّع في طرح التسوية وعدم درس طريقة تظهيرها والتعاطي معها بشيء من «الاستهتار» ما جعلها عرضة للاستهداف.

والأهم أنّ الاعتراف بسقوط التسوية (وفق المصادر نفسها) سيؤدّي الى تعميق خسارة الحريري وسط حالات معارضة ظهرت عبر رموز أساسية في «المستقبل» إضافة الى وضع غير سليم طاول الشارع السنّي. لذلك فإنّ الحريري مضطرٌ لاستئناف «هجومه» والتركيز على قرب عودته الى السراي لاستيعاب تداعيات ما حصل.

ولكن في المقابل هناك مَن يقول إنّ «حزب الله» خرج خاسراً من هذه المعركة. صحيحٌ أنّه نجح في إجهاض التسوية وفرض نفسه كجهة لا يمكن اختزالها باتفاق مع إيران بل يجب إنجاز تسوية معه أيضاً، لكنّه خسر أحد أبرز عواميده الداخلية وهي العلاقة التحالفية مع فرنجية.

وعلى ذلك تردّ مصادر معنيّة بأنه صحيح أنّ العلاقة تضرّرت لكنها قابلة لإعادة إصلاحها وأنّ الرئيس السوري بشار الأسد سيلعب دوراً أساساً في هذا المضمار مع صديقه فرنجية، بعدما يشرح له الأبعاد الحقيقية لخطوة الحريري.

أيّ نظرية هي الأصح؟ الجواب لن يتأخر.