IMLebanon

هل سقطت أسوار «الخلافة»؟

المسألة لم تعد ارتباكاً سياسياً أو تقدير موقف خاطئًا، فإهمال الحرب الفكرية والثقافية على الإرهاب والعنف وخطابات الكراهية عبر استراتيجيات طويلة الأمد يعني شيئاً واحداً، وهو انتصارات عسكرية مؤقتة وإخفاق فكري وثقافي. أو بعبارة أخرى، فما نشهده اليوم هو سقوط «أسوار الخلافة» العسكرية، وبقاء حوائطها الآيديولوجية الصلبة.

إهمال الممانعة الفكرية للخطاب العنفي الشمولي، بنسخه المختلفة من الإسلام السياسي إلى خطابات العنف المسلح إلى منظومات ولاية الفقيه وميليشياتها المسلحة، يعني أن قدر هذه المنطقة هو المفاضلة بين خيارات السيئ والأسوأ، وهو ما نراه جلياً في خطابات التحول من معسكر «داعش» إلى معسكرات الخلافة الآيديولوجية في المنطقة، وما أكثرها.

كانت «داعش» منذ البداية تراهن على خزان الأفكار الراديكالية أكثر من قدرة مقاتليها على إحداث تقدم عسكري كبير، لولا تدخل الأذرع المخابراتية في المنطقة لتتحول «داعش» التنظيم العبثي إلى ورقة سياسية خطرة يقامر بها الجميع على طاولة المنطقة، من النظام الأسدي إلى طموحات تركيا وصولاً إلى نظام ملالي إيران وحتى سياسات المالكي، في ظل إهمال كبير من قبل إدارة أوباما السابقة التي كانت ترى في استهداف رأس «القاعدة» إنجازاً يكفيها لتسترخي على كنبة الشرق الأوسط الجديد مؤملة في تغييرات جيوسياسية كبرى، عبر صيغة مفاهمة جديدة مع إيران وسلاحها النووي، والإسلام السياسي وإعادة تأهيله كبديل للأنظمة المترهلة من وجهة نظرها، في حين أن تقديراتها كانت خاطئة حول العنف الكامن تحت شعارات «الثورة» البراقة، والربيع العربي الذي كان يستبطن مشاريع انقلابية على منطق الدولة ومفهومها، فالشعب آنذاك لم يكن يريد إصلاح النظام بل «إسقاطه»، بما توحيه رمزية الشعار من تجريف لكل مكون سياسي تم بناؤه على علاقته منذ استقلال الدولة العربية القُطرية الحديثة، وأسوارها المنيعة رغم كل الإخفاقات، لكنها بقيت دولة في ظل أن أول تجربة لشكلانية الديمقراطية والانتخابات في الشرق الأوسط الجديد كشفت عن وجه الميليشيات الكالح، والخطابات الشمولية الإقصائية التي تختبئ تحت مفاهيم الثورة، واستخدام ورقة الجماهير الرابحة.

نجاحات تنظيم داعش السابقة، التي وصفها الغربيون قبل غيرهم بالباهرة، لم تكن بسبب إعلان دولة خلافة هشة، وبناء جدران عالية من الأحلام الوردية المستنبتة من مخيال التاريخ المزيّف الذي لا علاقة له بالتاريخ الإسلامي، بل هو مستل بانتهازية من إعادة كتابة التاريخ وفق عيون راديكالية، وعبر منمنمات صنعت على عجل خلال عقود قليلة من كتب الملاحم ونهاية الزمان والمهدوية الجديدة، إن صحت التسمية، وتم رعايتها بشكل سياسي سافر وبراغماتي لهدم مفهوم الدولة، على مستوى الاستقطاب والتمويل والدعاية المجانية وإيقاظ الحلم الراديكالي، ليس فقط في دوائر المؤمنين بالعنف المسلح طريقة للتغيير، بل للقادمين من دهاليز سرية بعد فشل دولة الإسلام السياسي.

يدين المتطرفون للبغدادي بأكبر انتعاش للفكر المسلح المتطرف منذ تأسس تنظيم القاعدة، وحتى تضخمه بعد الاحتلال الأميركي للعراق وصولاً إلى تحول العراق والشام إلى منطقة فوضى خلاقة بالمقاتلين والتنظيمات والأفكار المتطرفة في حدودها القصوى.

والحال أن القاعدة الذهبية لمتوالية الإرهاب المتكررة في المنطقة منذ سقوط الخلافة العثمانية هي أنه كلما أخفق مشروع إرهابي استيقظت على أثره مشاريع راديكالية، وانتعشت خطابات تقويضية لمفهوم الدولة لتحل بديلاً عنه، وهو ما نشهده اليوم في هذا الاستقطاب الكبير لخطاب الإسلام السياسي في الدفع بكل أوراقه لدعم رؤى جديدة في المنطقة، كالتي دشنها الرئيس إردوغان في احتفاله بالأمس القريب ضد الانقلاب الفاشل، وهي رؤية شعاراتية حالمة سياسياً مدفوعة بتعثر كبير في الاندماج مع السياسة الدولية، والانكفاء على الذات بنجاحات اقتصادية قائمة على استقطاب رؤوس أموال كبيرة لمناصريه في المنطقة، لكن هذه الاستثمارات كما هو الحال مع تحول قطر إلى إعلام معادٍ في شكل دولة لا يدوم طويلاً لأنه مخالف لمنطق السياسة في مفهومها البسيط، فالعالم اليوم يعيش حالة ما بعد الراديكالية، ليس بسبب نجاح سياسات الدول الكبرى أو المؤسسات الدولية، بقدر أنه جرب الخطابات الشمولية التي لا يمكن أن تنجح في أزمنة العولمة والحداثة وتقنية المعلومات، بل حتى مفهوم الدولة القُطرية يعاني من تصدعات كبيرة في حال أنه لم يتجاوز حالة الانكفاء على الذات نفسها.

تصدعات الإرهاب المنظم الذي كانت تمثله «داعش» و«القاعدة» لا تعني أن العقل العنفي سيعيش عزلة عن السياق الدولي والتوازنات في المنطقة، فهي إضافة إلى استغلال الفراغ الديني العام بسبب خروج الإسلام السياسي من المشهد… تراجع في تأثير القوى الدينية المستقلة، الرسمية منها والعلمية والحركية والمسيّسة، يعني أننا أمام فوضى فكرية كبيرة قد تقود إلى تحويلها إلى عنف فوضوي كبير، عبر العمليات الفردية والضغط الكبير على سياسات الأمن لدول الاستقرار في العالم.

هناك أزمة أصولية كبيرة في المنطقة، حيث تعيش خطاباتها في مأزق وجودي حقيقي بعد خروج منظوماتها الفكرية من المشهد السياسي من بوابة الربيع العربي، رغم بقاء جيوب تحاول إعادة ترميم ذاتها، والاندماج في جسد الدولة، وهي تجربة مثيرة للتحليل والنقاش، في تونس والمغرب أكثر من مواقع أخرى.

حالة الانفصال ما بين النخب الحاكمة وتلك المثقفة، وبين المجتمع العربي والإسلامي الذي انحاز في فترات ماضية نحو فكر الجماعات المسيسة ذات الطابع الإسلاموي بسبب ميله العاطفي والوجداني للتدين، لم تعد قائمة. ومن يراجع الواقع المجتمعي يشهد تحولات كبيرة، رغم بقاء حرارة الدافع الإيماني والديني، وليس في نسخه المسيسة؛ لم يعد سهلاً كما في السابق تدشين خطابات اختطاف للمجتمعات، وتجييرها لصالح أفكار متشددة، وهذا لا يعود لخطابات وقائية ثقافية لا تزال دون المستوى المأمول، بل بسبب تجذر خطاب الحداثة والمدنية اليوم على رافعة تقنية وتعليمية، وانفتاح نحو العولمة بخطى حثيثة، وربما مندفعة في بعض تجلياتها دون ترشيد، ومسؤولية الحكومات والنخب اليوم أكبر لتحويل هذا الدافع إلى خطابات مسؤولة باتجاه قيم الاستقرار والعدل والرفاه، في ظل الاضطراب الفكري والمفاهيمي الكبير الذي نشهده اليوم، فسقوط أسوار الخلافة لا يعني تهشم حوائط الراديكاليات التي لا تزال منيعة وعالية.