IMLebanon

بدعة فصل الإنماء عن السياسة

الدعوات المتكرّرة لفصل «الإنماء عن السياسة» التي رافقت الانتخابات البلدية على مدى الأسابيع الماضية تعكسُ وجهاً محورياً من وجوه أزمة الحياة السياسية والحزبية في لبنان.

ولعلّ الخطورة في هذا الشعار، شكلاً، تكمن في أنّه تردَّد على نطاق واسع ليس فقط على لسان مسؤولين في أحزاب وقوى سياسية فاعلة ووازنة، وإنّما كذلك على لسان ناشطين بارزين من المجتمع المدني الذي حاولَ تثبيتَ حضوره وتظهير دوره في الرأي العام اللبناني.

أمّا خطورة شعار «فصل الإنماء عن السياسة»، مضموناً، فتتمثّل في كونه يعكس جهلَ هذه الأحزاب والقوى – أو تجاهلَها المتعمّد – للمعنى الحقيقي للسياسة ولطبيعة الدور المطلوب منها أن تلعبه، والمسؤوليات التي يفترض بها أن تتحمّلها إذا أرادت فعلاً أن تكون أحزاباً وقوى رائدة في تحريك وإدارة الحياة السياسية، على غرار ما هو قائم في دوَل العالم المتحضّر.

وتزداد خطورة هذا الشعار متى رفعَه ناشطو المجتمع المدني الذين خاضوا الانتخابات البلدية، لأنّهم بذلك يُعبّرون بدورهم عن جهلِهم للمفهوم الحقيقي للسياسة والعمل الحزبي ويعلنون سلفاً من حيث يريدون أو لا يريدون عدمَ أهليتهم ليكونوا يوماً ما البديلَ لأعضاء «النادي السياسي والحزبي» الذين ينتقدون – عن حق – أداءَهم وفسادهم وسوءَ إدارتهم للمجتمع والدولة.

إنّ الدعوة إلى «الفصل بين الإنماء والسياسية» لم تعُد خطأً من الأخطاء السياسية الشائعة فحسب، ولكنّها تحوّلت إلى معضلة تُصيب جوهرَ الحياة السياسية والحزبية في لبنان، وتُهدّد المفاهيم البنيوية للدولة والمجتمع، وترسم حدوداً لا وجود لها في العِلم والمفهوم الديموقراطي للعمل السياسي.

فحديثُ الأحزاب والقوى السياسية عن وجوب فصل «الإنماء عن السياسة» يعني بكلّ بساطة أنّ هذه الأحزاب والقوى السياسية لا تملك مشروعاً تنموياً مفصّلاً وواضحاً، وبالتالي فهي لا تملك سياسة تنموية تعرّضها للاستفتاء على الناخبين في المدن والقرى والبلدات اللبنانية، بدليل أنّ اللبنانيين لم يسمعوا لا في مرحلة الاستعداد للانتخابات البلدية ولا قبلها بأيّ مؤتمر تنموي لإطلاق تصوّرات هذا الحزب أو ذاك لِما يجب أن يكون عليه الأوضاع في المدن والقرى والبلدات اللبنانية على امتداد الـ 10452 كلم2.

وعلى العكس من ذلك، فإنّ معظم المقاربات الحزبية والسياسية للانتخابات البلدية تمثّلت في ضمان «حجم الحضور» على اللوائح وفي المجالس المنتخبة متوسّلةً لذلك – في الوقت ذاته – التحالفَ ولو مع «النقيض السياسي والعقائدي» في بعض المناطق، ومخاصمة «الحليف المكمل» في مناطق أخرى، من دون أن يفهم الناس لماذا وعلى ماذا كان التحالف؟ ولماذا وعلى ماذا كانت المواجهة الانتخابية؟

في المقابل، فإنّ ناشطي المجتمع المدني الساعين إلى «التغيير» قزّموا قضيتَهم من خلال الدعوة إلى فصل «الإنماء عن السياسة» إلى حدود تقديم أنفسِهم مجرّد «بديل إنتخابي» آنيّ ومرحليّ، في وقتٍ يفترَض بهم أن يتحوّلوا إلى البديل عن طبَقة سياسية أثبَتت فشلَها في إدارة الشأن العام، وعن طواقم حزبية أثبتت – على مدى السنوات الماضية – عدمَ قدرتها على الخروج من فروض «الولاء» والانتقال إلى عالم «الكفاءة».

وهكذا وقعَ اللبنانيون مرّةً جديدة بين مطرَقة «تسخيف العمل الحزبي» الذي تتحمّل مسؤوليتَه الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة، بتحوّلِها إلى مجرّد ساعٍ لحجز أكبر عدد ممكن من المقاعد في المجالس البلدية من دون تصوّر أو مشروع تنمويّ على المستوى الوطني، وبين سندان «شيطنةِ العمل الحزبي» الذي يتحمّل مسؤوليتَه ناشطو المجتمع المدني بتصويرهم مبدأَ العمل السياسي والحزبي وكأنّه مرادفٌ للفساد والعقمِ والفشل في معالجة مشاكل الناس وقضايا المجتمع.

مِن هنا، فإنّ اعتبار الانتخابات البلدية نموذجاً بمسارها ونتائجها لِما ستكون عليه الإنتخابات النيابية المقبلة، يعني بكلّ أسف أنّ «عصر الانحطاط السياسي» الذي يعيشه لبنان مرشّحٌ للتمديد ولو من طريق «الإنتخابات»… وللبحثِ صِلة!

* عضو الأمانة العامة لقوى «14 آذار»