IMLebanon

زيارة تاريخية ترمم تحالًفا تاريخًيا

قبل أن يصل الأمير محمد بن سلمان٬ ولي ولي العهد٬ إلى واشنطن كانت هناك لهفة أميركية واسعة تترقب المحادثات الماراثونية التي سيجريها٬ على خلفية إنعاش الشراكة التاريخية بين البلدين٬ ومنذ مقابلاته الممتازة والصريحة مع «بلومبرغ» ثم مع «إيكونوميست»٬ اتسعت دائرة الاهتمام الأميركي بالخط الذي يرسمه في سياق٬ من الواضح أنه يهدف إلى تحديث وتطوير ثلاث شراكات مهمة بين أميركا والمملكة العربية السعودية تشمل المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية.

طبعا هذه ليس زيارته الأولى إلى أميركا٬ فقد سبق له أن شارك في قمة كامب ديفيد التي عقدت في مايو (أيار) من عام ٬2015 ثم إنه رافق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز خلال زيارته إلى واشنطن في سبتمبر (أيلول) من العام إياه٬ لكن هذه الزيارة وهي الثالثة تتميز في شموليتها ومداها٬ لتكتسب أهمية بارزة تتجاوز العلاقات المهمة بين البلدين لتشمل القضايا الخليجية ومشكلات الإقليم.

يجمع المراقبون في العاصمة واشنطن أنها زيارة بارعة في توقيتها على أكثر من صعيد٬ أولا لأنها ترسخ قواعد متينة في العلاقات تبدو ضرورية جدا حيال استمرارية الشراكة مع الإدارة الجديدة٬ وثانيا لأنهاَترّد مباشرة وفي شكل واضح على مساعي اللوبي الإيراني الناشط في واشنطن٬ الذي توصل إلى القدرة على الهمس في آذان البيت الأبيض٬ ودائما في سياق السعي إلى بث صورة نمطية كاذبة تحاول أن تربط السعودية ودول الخليج بالظاهرة الإرهابية٬ على الرغم من أن الرئيس باراك أوباما كان يكرر دائما أن السعودية هي الأنجح والأقدر في محاربة الإرهاب على كل المستويات.

كان لافتا وربما ساحرا أن يهبط ولي ولي العهد في العاصمة الأميركية مرتديا الطقم الذي فاق في أناقته ما كان يرتديه جون كيري٬ الذي كان في استقباله٬ وبدا الأمر بمثابة تذكير ضمني بأن للمملكة العربية السعودية وجها شبابيا ناشطا وطموحا لا يكتفي بهندسة «رؤية السعودية 2030 «التي أثارت إعجاب الأوساط الاقتصادات الكبرى في أميركا ودول الغرب٬ بل إنه يعمل على هندسة قواعد عصرية واستراتيجية متجددة٬ ولهذا كان لا بد من الذهاب إلى «سيليكون فالي» عاصمة التكنولوجيا والحداثة التي يمكن أن تغني الخط السعودي القويم والراسخ.

اللقاء أمس بين الرئيس الأميركي والأمير محمد كان شاملا وعميقا٬ ذلك أن المحادثات ركزت على النهوض بالعلاقات بين البلدين٬ وخصوصا بعد ما أظهره أوباما من تهافت على الاتفاق مع إيران دون التنسيق المطلوب مع حلفاء أميركا التاريخيين في الخليج٬ كما ركزت على التدخلات الإيرانية والعربدة في العراق وسوريا واليمن٬ ما يخلق بيئة من المرارات المذهبية التي تصب في مصلحة المتطرفين٬ وفي هذا السياق عندما يقول كيري إنه لولا السعودية لم يكن في الوسع إنشاء «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب»٬ فمن الطبيعي أن تكون المباحثات مع أوباما ركزت مليا على هذا الجانب.

وكان البيت الأبيض قد أعلن عشية الزيارة أن الرئيس الأميركي سيلتقي ولي ولي العهد الأمير محمد٬ حيث سيتناولان مجمل القضايا المتصلة بالصراعات في الشرق الأوسط والحملة التي يشارك فيها البلدان ضد تنظيم داعش٬ وجاء هذا بعد المحادثات مع وزير الدفاع آشتون كارتر في البنتاغون٬ حيث أكد الأمير محمد أن المنطقة تعيش مخاطر كبيرة أبرزها الإرهاب والتدخلات الخارجية٬ وأن المملكة العربية السعودية تعمل مع حلفائها وخصوصا واشنطن لمواجهة هذه الأخطار.

ووصف البنتاغون الاجتماع الذي استمر لأكثر من ساعتين بأنه شهد نقاشات مثمرة تطرقت إلى مجموعة واسعة من القضايا شملت تطورات الحرب ضد «داعش» وتقييم مدى التقدم في جهود التحالف الدولي والسبل المتاحة لتعزيز الجهود٬ إضافة إلى مناقشة الوضع في اليمن وكيفية تعزيز جهود مكافحة «القاعدة» في منطقة الخليج.

النقاشات والاجتماعات الموسعة التي أجراها الأمير محمد مع قادة وأعضاء في الكونغرس٬ تركت أثرا بالغا عبر عنه السيناتور الجمهوري توم كوتن بالثناء على عمق التعاون والشراكة الوثيقة بين الولايات المتحدة والسعودية في مختلف المجالات٬ وقال كوتن في بيان أصدره بعد المحادثات نحن نقدر التبادل المثمر والصريح لوجهات النظر مع ولي ولي العهد٬ الذي يعكس الشراكة الوثيقة وطويلة الأمد بين بلدينا٬ وكان تركيزنا الرئيسي على المصالح الأمنية المتبادلة٬ بما في ذلك جهود مكافحة الإرهاب وكذلك التهديد الذي يشكله العدوان الإيراني في سوريا والعراق واليمن والشرق الأوسط.

لعل أفضل ما قيل عن الزيارة التاريخية في شموليتها وحساسية واتساع الملفات التي تطرقت إليها هو ما أعلنه الأمير محمد بالقول: «إنا اليوم في بلد حليف لنا٬ وفي وقت حساس جدا في منطقة نحن نعيش فيها اليوم مخاطر كثيرة جدا٬ سواء من عدم الاستقرار في بعض الدول٬ أو التدخل الإقليمي في شؤون بعض الدول٬ أو الإرهاب.. واليوم  إن للولايات المتحدة وحلفائها دورا مهما جدا لمجابهة هذه المخاطر التي قد تؤثر في العالم في شكل عام٬ ونحن نعمل بجد لمجابهة هذه المشكلات».

في الكونغرس كما في نيويورك كانت اللهفة بادية على المسؤولين الاقتصاديين الكبار والمؤسسات المالية الذين استقبلهم الأمير محمد٬ وليس غريبا أن يكون الاهتمام في مستوى الهزة الكبيرة التي تركتها «رؤية السعودية 2030«٬ على خلفية أكبر اكتتاب في التاريخ٬ عندما تطرح نسبة الخمسة في المائة من أسهم «أرامكو» في البورصة العالمية.

وكان لافتا ومثيرا أن يقول البيان بعد المحادثات في الكونغرس إن النقاش ركز على الناحية الاقتصادية وخصوصا «رؤية السعودية 2030 «التي تمثل مبادرة مهمة وواعدة من ولي ولي العهد من شأنها أن تؤدي إلى تنويع الاقتصاد السعودي في القرن الحادي والعشرين والسنوات المقبلة٬ وأن المصالح المشتركة للبلدين سوف تتعمق وتستمر لمواجهة التحديات السابقة واغتنام الفرص الجديدة ونتطلع دائما إلى العمل مع ولي ولي العهد؛ لتحقيق المصالح المشتركة للبلدين وبناء عالم يسوده السلام والرخاء.

من واشنطن حيث سيطرت السياسة٬ إلى نيويورك؛ حيث دخل العامل الاقتصادي إلى كاليفورنيا٬ حيث يبرز الاهتمام بالحداثة والتقنيات٬ لم يتردد بعض المراقبين في القول:

إن زيارة الأمير محمد تاريخية شكلت مفترقا ليس لإعادة العلاقات الأميركية السعودية إلى سكتها التاريخية٬ بل أيضا لبدء مرحلة جديدة تقوم على ترميم الجسور ومد جسور جديدة بما يساعد تاليا في ترسيخ علاقة قوية واستراتيجية بين البلدين٬ بحيث ترسخ وتراكم التحالف التاريخي القائم منذ سبعين عاما.