IMLebanon

كيف رتَّب الحراك مطالبه الثلاثة؟

قبل أسابيع كانت مصادر ديبلوماسية على تواصل مع مراجع سياسية لبنانية، حدّدت للبنان موعداً مع «أيلول مقلق»، لكنّها تركت الدائرة التي سيحدث فيها هذا القلق مبهَمة، علماً أنّ تقارير ديبلوماسية أوروبية نبَّهت حينها بيروت من خطر على استقرار لبنان مبعثه الاحتقان الاجتماعي. غير أنّ المستويَين الأمني والسياسي اللبناني، وضعا هذا التحذير الأخير ضمن دائرة «الاحتمالية المتدنّية»، وذلك لمصلحة التركيز على ما يُسمّى في الامن، «الساحات ذات الاحتمالية العالية» للاشتعال، مثل مخيم عين الحلوة والإرهاب والنازحين السوريين وتأثيرات الاحتقان المذهبي في المنطقة على لبنان.

بحسب مصادر متابعة لتحذيرات سابقة عن «أيلول لبناني مقلق»، (كانت «الجمهورية» اشارت اليها)، فإنّ الاخطار الآن ضمن هذا التحذير الآنف، تقع في إطار تطوّرين يجب تلافيهما: الأوّل إظهار أنّ السلطة السياسية في لبنان غير قادرة على المعالجة أقلّه على مستوى ملفّي رئاسة الجمهورية والنفايات. والثاني أن تتصرَّف عملياً، وليس فقط بالكلام، بنحوٍ يوحي بأنّها منكرة لوجود هبة شعبية مطلَبية مُحقة في لبنان.

مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي الأخيرة تندرج ضمن التحسّب لتلافي هذين الخطرين، علماً أنّ مصادر قريبة منه تفيد أنّه مقتنع حتى قبل الاحداث الراهنة بأنّ الشهرين المقبلين سيحملان تطوّرات تفضي إلى حلّ أزمة الشغور الرئاسي.

ونقلت عنه منذ تلك الفترة رؤيته لبنية الحلّ اللبناني التي تقوم على تطبيقات «نظرية الطبقات الثلاث»: الأولى، محلّية تنتج تفاهماً لبنانياً على رئيس للجمهورية ومن ثمّ على خريطة طريق لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية وإجراء انتخابات نيابية بقانون انتخابي جديد. والثانية، إقليمية نواتها الصلبة تفاهم عربي – إيراني (مصر والسعودية وإيران). والثالثة، دولية.

وتمتاز رؤية برّي المنسوبة اليه منذ ما قبل بدء الاحداث الاحتجاجية الراهنة، بأنها تقترح البدء «من تحت الى فوق»، (أيْ من الطبقة اللبنانية وصولاً إلى الدولية)، وليس العكس، وذلك حتى لا ينهار الوضع اللبناني من داخله خلال مرحلة انتظاره لبدء تجسّد نتائج «القدر النووي الايراني – الاميركي».

معلومٌ أنّ كلّ طبقة من هذه الطبقات تُواجه عملية بنائها صعوبات كثيرة. ولكن في المقابل هناك معلومات تُشجّع على مباشرة البدء ببناء الطبقة اللبنانية الاولى، ومفادها وجود قرار دولي لإنتخاب «رئيس جمهورية الآن» وذلك تحت ضغط الشارع.

وكانت مصادر هذه المعلومات عينها، كشفت قبل أسابيع عدة عن رسالة وصلت من دولة كبرى لأقطاب موارنة أبلغتهم بأنّ لديهم فترة سماح حتى بداية تشرين الأول، للاتفاق على اسم الرئيس، وإلّا فإنّ اسمه سينزل عليهم بالمظلّة الدولية، ولن يملكوا ردّ القَدَر الدولي.

والمُعطى المستجدّ الذي تتحدث عنه راهناً هذه المعلومات المنسوبة الى المصادر عينها، يتكهّن بثقة بأنّ ضغط الشارع المرشح للتصاعد، سيخلط أوراق كلّ لعبة الاصطفافات المحلّية القائمة منذ نحو عام في شأن إنتخاب الرئيس العتيد، وسيمنح «حزب الله» مبرّراً ذرائعياً أو مخرجاً موضوعياً تفرضه التحوّلات الصاخبة في الشارع، للخروج من ثابتة التزامه للنائب ميشال عون بالتمسك بترشيحه للرئاسة، وذلك مقابل إيجاد تعويض له.

الصورة من داخل الحراك

أما داخل الحراك، فيتمّ التفكير بطريقة تتفاعل خارج هذه النمطية السائدة في التفكير السياسي اللبناني. وتقدم مصادر عميقة المعرفة بتركيبته وخلفيات تفكيره، قراءة تُفسّر الى أين يتّجه، وتُحدّد الاسباب التي جعلته يُرتّب مطالبه الثلاثة على النحو الذي جاءت عليه في بيان ساحة الشهداء السبت الماضي.

تقول هذه المصادر إنّ تحديد المطالب الثلاثة أتت بعد دراسة وتنطوي على ذكاء واضعيها. فالأسباب الكامنة وراء المطلب الاول الخاص باستقالة وزير البيئة محمد المشنوق والاصرار على إبقاء اولوية لملف النفايات، ثلاثة:

– يأخذ هذا المطلب في جزءٍ من أهدافه، مراعاة التركيبة البنيوية لتوزع القوى المنظمة داخل القيادة الميدانية للحراك المؤلّفة من اليسار واتجاهات المجتمع المدني والتي يوجد بينها ثقلٌ لا بأس به للجمعيات البيئية. وهذه الاخيرة غير مسيّسة ويهمّها من الحراك الوصول إلى مكاسب بيئية عميقة، وتعتبر وزارة البيئة الجهة التي تُصوّب عليها معركتها الاساسية.

وعليه، فإنّ المطالَبة باستقالة المشنوق ومحاسبته على سياسته البيئية يعتبر بجانب منه، جائزة ترضية لقوى البيئة المدنية لكي تواصل حراكها بزخم أكبر ولا تشعر بتطيير جهودها لمصلحة مطالب سياسية تُريدها قوى أخرى في الحراك. أضف أنّ هذه الجمعيات البيئية لديها امتيازات قوة داخل الحراك تتأتّى من أنّ لديها امتدادات وصلات دولية شعبية ورسمية واسعة وفاعلة، وتشترك معها في الأجندة البيئية، وهي تستطيع حشدها في معركة دعم الحراك الشعبي اللبناني.

– السبب الثاني لإعطاء هذا المطلب اولوية في بيان الحراك يتعلق بأنّ ملف النفايات من بين كلّ مطالب الناس الأخرى يشكل السبب المباشر لهبّة الناس، ووضعه على رأس مطالب هذه المرحلة يفيد في إبقاء الصِّلة حيّة ومتفاعلة بين الحراك والشعب اللبناني.

وفي شأن المطلب الثاني المتصل بمحاسبة وزير الداخلية نهاد المشنوق ومطلقي النار على المحتجّين يومَي السبت والأحد ما قبل الماضيَين، فهو أيضاً له اسبابه التي تعبّر عن طريقة تفكير منظّمي الحراك. فالعنفُ الرسمي المُفرِط هو العنوان الوحيد من بين كلّ أحداث الحراك الذي استدرج مواقف دول كبرى لإدانته أو الدعوة الى وقفه. وعليه فهو مطلب يحظى بغطاء معنويّ دولي، ومن المهمّ الضغط على الحكومة من خشلاله. أما السبب الآخر لانتقائه، فيعود الى أنّ نسبة عالية من المواطنين لم يلتحقوا حتى الآن بالحراك، بسبب خوفهم من حصول اعمال عنف.

وفي حال تأكّد هؤلاء من ناحية أنّ الحراك لن يتعرّض لقمع رسمي نتيجة الضغط الدولي وخوف السلطات الأمنية من تعرّضها للمحاسبة، وتأكّدوا من ناحية ثانية أنّ قيادة الحراك باتت أكثر قدرة على السيطرة على فاعلياته الشعبية عبر لجان منظمة، فإنّ تظاهرات المرحلة المقبلة ستشهد التحاق «شريحة المواطنين المتردّدين» بها، وهؤلاء يقدّرهم الحراك بأنهم ضعفا عدد الذين نزلوا حتى الآن الى الشارع. وبمعنى آخر، يريد هذا المطلب تقييد أيدي قوى الأمن الداخلي ووزارة الداخلية، كرسالة طمأنة للجمهور المتردِّد.

والى هذه الاسباب التقنية، ولكنها ذات اهمية على مستوى رفع منسوب الهبة الشعبية، هناك أسباب أخرى سياسية تقف وراءها قوى اليسار، وهي تتعلّق بشقّ مسار المحاسبة لإضعاف موقع الحكومة وأحزابها سياسياً في مواجهة الحراك، وجعلها في أزمة ثقة مع الأجندة الأنسب لاحتوائه. والواقع أنّ مصطلح «نجاح السلطة في احتواء الحراك سياسياً»، هو اكثر ما يقضّ مضجع يسارييه.

– المطلب الثالث الخاص بالذهاب إلى قانون انتخابي نسبي، وانتخابات نيابية تسبق الانتخابات الرئاسية، جاء ليُلبّي بامتياز بيئة اليسار داخل الحراك وبيئات أخرى بدأت تتوافد اليه وتضمّ شخصيات سياسية ونقابية وذات مصلحة بالتغيير. وتقول فكرة هؤلاء الأساسية إنّه لا يجب مطالبة الحكومة بشيء، بل المطلوب إيجاد شرعيّة للشارع في مقابل شرعيّتها الآيلة إلى السقوط.

لا يعني ما تقدّم أنّ هؤلاء يريدون الفراغ، بل اقتحام السلطة من خلال الضغط على الأحزاب السياسية لإقرار قانون انتخاب يعتمد النسبيّة على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة. ويراهنون على أنه إذا حصلت الانتخابات في ظلّ مناخ هبّة الحراك الشعبية، فإنّهم سينجحون في إيصال عدد كبير من القوى الجديدة الى مجلس النواب، وعندها يقودون تغيير النظام الطائفي من داخله.

مهلة 72 ساعة

أمّا عن السبب الذي جعل الحراك يُحدّد مهلة 72 ساعة فقط لإنجاز مطالبه وإلّا التصعيد، فهذا الامر بدوره مقصود. يُدرك منظمو الحراك أنّ المهلة قصيرة لإنجاز نقل ملكية قطعة ارض صغيرة في لبنان، لكن تمّ تعمّدها حتى يتمّ استثمار فشل الحكومة في تلبية مطالب الحراك، كحافز طاقة يضاعف الغضب الشعبي عليها وعلى الأحزاب السياسية المشاركة فيها، ويؤدّي ذلك الى أن يستقطع الحراك فرصة وقت اضافية لنفسه، ينتهزها لتلبية احتياجات مزيد من التنظيم والتحشيد وإنشاء الصلات وإذكاء الغضب الشعبي وإيصاله الى اليأس الكامل من الحكومة والطبقة السياسية كلها…

والهدف المركزي الآخر ضمن هذه المرحلة، هو نقل الحراك الى الأطراف اللبنانية أيضاً، حيث تتركز قواعد الأحزاب الاجتماعية، وفي حال نجاحه في إحداث اختراقات فيها سيتمكن حينها من الوقوف على أرض صلبة ديموغرافياً.