IMLebanon

في محنة مشهودة!

مثير للأسى والضنى ووجع الرأس، الاشتباك السياسي الراهن على شكل القانون الانتخابي ومضمونه.. لكنّه أكثر بقليل من ذلك، لو سمحتم: للمرّة الثانية، بعد واقعة مشروع «القانون الأرثوذكسي» تعود الرواحل الى البدايات! أو تراها تجرّب ذلك! وفي الظنّ (الخطير) أن العودة الى الوراء شرط واجب للمشي الى الأمام! وإن التاريخ مكان لائق للإقامة والاستجمام، وليس ماضياً لا تصحّ عليه سوى الرحمات والدعوات لعدم عودته، أو استعادته!

بعض الناس في نواحينا (مثل الإيراني بالمناسبة)، يفعل ذلك وأكثر منه: يجعل من التاريخ برنامج عمل راهن سياسي وتام. يستأنس بصفحاته، وخصوصاً منها القاتمة والأكثر قتامة.

ويفترض النقر والحفر في الذاتيّات والفرعيّات والمقسّمات والمشرذمات، عدّةً لتوضيح المرام وإكمال البيان وتنقيط حروفه كي تُقرأ بلغة العصر وأدوات الحداثة..

لكن ذلك البعض لا ينتبه، الى أنّ عدّته هي ذاتها عدّة غيره. وإن الاحتكار في سوق محكومة بالفوضى، وهمٌ قتّال. وإن المشاعات المفتوحة هي تماماً كذلك: مفتوحة أمام الجميع، وليست مقفلة لحسابات خاصة وأهواء مربوطة بهويّات مهتاجة. و«التاريخ» المشاع، يصير في ذلك مثل الأرض والشجر والحجر، وكلّ ما هو في عُرف الطامح سائب، يستحق اللطش!

والتاريخ (للمفارقة) عدّة إثنين متناقضين تمام التناقض.. الأول، ذكي لمّاح يقرأه للاتعاظ والوعظ ولا يستسيغ الإقامة عنده طويلاً! والثاني متذاك يقرأه بسرعة ويضعه كجدول أعمال يستحق التجربة، وإن كانت بلاء موعوداً، يقيناً وحُكماً!

وصنو التاريخ عند المتذاكي، غريزة مأزومة! وذروة المحن، وضع الإثنين في الصدارة. ثم التشاوف بهما باعتبارهما عنوان هوية مستعادة! ودلالة تحديث رؤية. وتفعيل وجود! واستعادة مسلوب! وتفطيس ضيم أو بناء حيثية؟ يُعتدّ بها!

في أزمنة البلاء والابتلاء، تصبح الغريزة سلاحاً مرحلياً تعبويّاً تحتاجه مصائر فعليّة. ويتمم عدّة المواجهة والنزال وساحاتهما.. لكنّه في أزمنة الافتعال والإنفعال، وشيوع السعي البائس الى لعب أدوار أكبر من أصحابها، وأثقل من أوزانهم، وأعقد من قدراتهم البسيطة، وأوسع مدى من حدودهم الفكرية والثقافية والاستيعابية.. تصير تلك المثلبة (والغريزة مذمّة في كل حال!) خطيئة تامة لا تنقصها مطوّلات وشروحات وسفسطات بائسات!

.. في «مُغريات» بؤس الاشبتاك الانتخابي الراهن، ما يكفي لبناء منصّة للشماتة! والتفرج من فوق على مفارقات عزّ نظيرها في أي عالم عاقل.. كأن يذهب مذهبي فئوي غرائزي أصيل ومأزوم الى «إكتشاف» ظلّه في حليفه! وأن يروح الى تقريظ الخصال التي فيه وكأنّها في غيره! وإلى تبخيس «الفكرة» التي صدمته وهي التي من عنده أصلاً وفصلاً! وأن يذهب للندب على ضحيّة هو الذي جندلها في التراب! وأن يشكو ويئنّ من «حالة» هو الذي أنضج مناخاتها قبل غيره بأشواط وأشواط! وأن يدبّ الصوت خشية من خراب هو الذي أنزله بالعمران طوبة طوبة! وأن يصيح بغريزته مناشداً عقل غيره!

هذه محنة لا تعوزها متع كثيرة، سوى أنّ احتمالاتها الكارثية أبعد مدى من صنّاعها وأكبر وأشمل. ولولا ذلك لغابت الشكوى وضَمُرَ الضنى وتلاشى الأسى بكل تأكيد!