IMLebanon

في التطرف والإرهاب وأسبابهما

سوف نحتاج إلى المزيد من الوقت والكثير من الجهد من أجل تحديد الأسباب المباشرة، الأكثر تأثيراً، في اندلاع موجة الغلو والتطرف والإرهاب الراهنة التي تنطلق من بلداننا، والتي تفوقت على سواها في الإجرام والهمجية والتوحش. نقول ذلك قياساً إلى موجات سابقة من التطرف والإرهاب والعنف اتخذت صيغاً وأسماء أخرى في العصور القديمة والحديثة.

طبعاً، بالنسبة للنازية، مثلاً، كانت الخسائر التي أوقعتها أكبر بما لا يُقاس. النازية امتلكت، من وسائل التدمير والقتل، ما جعل عدد ضحاياها يفوق عشرات الملايين في الحرب العالمية الثانية. الفارق أن الإرهابيين الجدد لم يتمكنوا (بعد!) من امتلاك نفس إمكانيات وقدرات أسلافهم. لكن الأكيد أنه لو توفرت لهم مثل تلك الإمكانيات (وصولاً إلى أسلحة الدمار الشامل مثلاً)، لما ترددوا، استناداً إلى سجلهم الإجرامي في السنوات القليلة الماضية، في إلحاق خسائر مخيفة ومروِّعة بالبشرية وبالعمران والحضارة (تستطيع أن تعطي فكرة بسيطة وجزئية عنها قنبلتا الجيش الأميركي على مدينتي هيروشيما وناكازكي اليابانيتين، واللتان قتلتا، مباشرة، مئات الآلاف، وتركتا أضراراً هائلة، غير مباشرة، ما زالت مستمرة، منذ ستة عقود حتى اليوم).

بيد أن انتظار تحديد الأسباب المباشرة للموجة الراهنة من التطرف والإرهاب، لا يعني الحكم بأن أسبابها العامة، الرئيسية، مجهولة أو غامضة أو حتى محل التباس وخلاف كبيرين. هذه الأسباب تكمن في التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وهذه التحولات تترافق، بدورها، مع تحولات مشابهة في حقول الاكتشافات والمعرفة والعلم والاتصال والانتقال… في المجالات العسكرية والمدنية… ويرتبط بهذه جميعاً تنافس وصراع ضاريان على الموارد والمكاسب والأسواق والحدود. تستخدم، في مجرى ذلك، في مراحل متقدمة أو متأخرة، كل عناصر القوة من أجل فرض تعديلات في المكاسب والحصص والتوازنات أو من أجل الحفاظ عليها. في خضم هذه التحولات والصراعات، تستخدم، على أوسع نطاق أيضاً، وسائل معنوية وسياسية وإعلامية وروحية. وكان ولا يزال شائعاً، استغلال مآسي وخسائر المتضررين لإطلاق وعود وعهود بالتخلص من الأزمات وبتحقيق أهداف ومطالب ذات محتوى اقتصادي أو اجتماعي أو وطني أو قومي أو أممي…

في هذا السياق، ومقابل الوعود المادية الأرضية، نشطت، دائماً، وعود ما ورائية: وعود نعيم الحياة الأخرى وفق قراءات استخدمت الأزمات وتفاقمها واستعصاءها: جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، من أجل إشاعة وترويج تبسيط يدمج ما بين قساوة الدنيا ووعود وتخيلات الآخرة. وقد أتاحت نصوص وممارسات أساسية أو عرضية استخداماً للدين وللتدين، من قبل مغرضين أو منافقين أو جاهلين، اشتقاق آليات بلوغ الوعود والتخيلات: بأقرب الطرق دائماً وبأبشع وأغرب الوسائل أحياناً!

في عملية الرصد والبحث المفتوحة، عن الأسباب المباشرة للغلو والإرهاب، لا ينبغي، فقط، رؤية جوانب دون أخرى في انطلاق وتعاظم عملية التطرف والغلو على النحو الذي يعيشه العالم حالياً. قد يُقال أن الأمر محصور في ما بين الإرهاب «الديني» وردود الفعل عليه… ليس هذا القول صحيحاً. لم تنشأ، مثلاً، ظاهرة النازيين والفاشيين الجدد في أوروبا بسبب التطرف القادم من الشرق. وماذا عن المافيات التي تتحكم بمقدرات بلدان بكاملها (من بينها أكبر وأقوى بلدان العالم كالولايات المتحدة الأميركية). لقد تمكنت هذه المافيات من تشريع حمل السلاح لكل الناس لكي تستخدمه، هي، على أوسع نطاق، لتأمين انتصارها في المنافسة وسيطرتها على المجتمع عموماً. ألا يشكل الصعود المفاجئ لشخص أرعن ومهرج ومتطرف كالمرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، تعبيراً عن محاولات مستمرة يقودها جزء من الاحتكارات الأميركية من أجل فرض قواعد جديدة للمنافسة والعلاقات بعد التحولات الاقتصادية العالمية المتسارعة التي أدت إلى تراجع قدرات الولايات المتحدة ومكانتها كقوة هيمنة عظمى وحيدة في العالم؟! ألا يشكل مشروع ترامب استئنافاً، ولو بوسائل وأدوات جديدة مبتذلة (لكن خطيرة)، لاستراتيجية «الحروب الاستباقية» التي مارسها «المحافظون الجدد» مع جورج بوش الابن قبل عقد من الزمن (في العراق بشكل خاص)؟

يعاني عالمنا اليوم من أشكال من الظلم الذي يتعاظم ويتوسع كل يوم: ضد حقوق الجماعات والأفراد على حدٍ سواء: من فلسطين التي ابتُليت بالإرهاب الصهيوني المتمادي، إلى حرمان شعوب وأقليات على امتداد الكون من حقوقها الطبيعية السياسية والاجتماعية والفكرية، إلى استهداف حقوق العاملين ومكتسباتهم في معظم البلدان، إلى الاستبداد المقنع والمنافق على غرار ما يحصل الآن في تركيا حيث يطاول العقاب عشرات آلاف المعلمين والقضاة… وفي مصر حيث جرى تمويه مصادرة آمال شعب في التحرر والتقدم بواسطة سلطة عسكرية تحولت عن مهمتها الأساسية، في الدفاع عن الوطن، إلى مهمة داخلية في خدمة السلطة المستبدة التابعة أو الحلول مكانها عندما تعجز وتترهل.

العدوان والظلم والاعتداء على الحقوق والأرض والكرامة والحرية، هي وسواها، أسباب أساسية وحاسمة في اندلاع الاحتجاج والاعتراض والثورات… لكن اليأس والغرضية والجهل والمصالح الصغيرة قد تحدد، هي، المسارات وتلوِّن ردود الفعل بألوان يمتزج فيها المحلي بالخارجي والقديم بالجديد، وأطماع الدول ونشاط استخباراتها بطموح الأفراد وما قد يستخدمون من وسائل مفرطة في الجموح والعبثية والنفاق والتطرف والإرهاب…

ليس من الصعب رؤية ذلك التفاعل والتكامل ما بين الأسباب السياسية للتطرف والغلو، وما بين الأسباب المباشرة، خصوصاً أن القوى الأكثر قدرة على التأثير والاستثمار لا تدع وسيلة إلا وتستخدمها من أجل بسط الهيمنة وكسب المنافسة وتعظيم الربح والنهب والإخضاع: بكل الأساليب والأدوات بما في ذلك أقذرها وأشدها فتكاً وضرراً وتدميراً… بل أنه يمكن الجزم بأن إرهاب «الكبار»، دولاً عظمى أو متوسطة، هو الأساس، وإن الإرهاب «غير الرسمي» هو الفرع. الأول هو الأفتك والأبعد أثراً وخطراً. الثاني يدخل في نطاق رد الفعل الذي يولِّده أو ينظمه أو يدعمه الطرف الأول في الكثير من الحالات. أولم تبدأ «قصة» تنظيم «القاعدة» من «الجهاد» في أفغانستان ضد الجيش السوفياتي؟! ألم يبادر خصوم الحكم السوري إلى استخدام كل الوسائل لإسقاطه بما فيها تنظيم وتشجيع ودعم واستقدام عشرات آلاف المقاتلين المتطرفين، تحت رايات «الجهاد»، من أجل هذه المهمة. ألم تلعب دوراً رئيسياً في هذه العملية أجهزة حزب «العدالة والتنمية» الذي يقوده الرئيس التركي رجب أردوغان؟!

معركة الاستقلال والسيادة والحرية والتحرر والتنمية والتقدم الاجتماعي والحضاري… هي معركة واحدة. تُفيد تجربة مريرة بأن القوى التي حاولت خوض معارك تحت أحد هذه العناوين قد افتقرت إلى الرؤيا والخطط الشاملة لجوانبها ولمستلزمات الانتصار فيها. ما يجري، منذ سنوات خصوصاً، يشير إلى فداحة الأخطاء الذاتية التي ساهمت في إدخال معظم دول منطقتنا في حروب أهلية، دامية ومدمِّرة، لا يستفيد منها إلا الأعداء. البحث في تلك الأخطاء ومحاولة عدم تكرارها، وبالتالي عدم استخدامها من قبل العدو، هو عامل شديد الأهمية لتحسين شروط المواجهة مع قوى الإرهاب والتطرف، الكبيرة والصغيرة، التي نحن ضحاياها بالدرجة الأولى.