IMLebanon

في طهران: قطعة البطاطا الساخنة التي يخشى الجميع الاقتراب منها

التوقيع أم عدم التوقيع؟

بالنسبة للرئيس الإيراني السيد حسن روحاني٬ ذلك هو السؤال المهم.

والتوقيع محل التساؤل يشير إلى الحافز المطلوب لتفعيل ماُيعرف بـ«الاتفاق النووي» الذي جرت بشأنه المفاوضات مع دول مجموعة «1+5» في فيينا الصيف الماضي.

تمكن روحاني وفريق المفاوضات التابع له٬ عبر عامين من المفاوضات٬ وجزء منها كان سرًيا غير معلن٬ من التلاعب بالأمر برمته للمراوغة بشأن الموقف الذي يستلزم التوقيع على الاتفاق. وحتى الآن٬ يعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما٬ وعلى الإطلاق٬ هو الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي مهر «الاتفاق النووي» مع إيران بتوقيعه. والآن٬ ومع ذلك٬ يواجه السيد روحاني وفريقه موقفا لا مفر فيه من التوقيع على الاتفاق.

دعوني أوضح الأمر ملًيا. لمساعدة أوباما على الاحتفاظ بسعادته بسراب «الاتفاق» مع إيران٬ حتى نهاية فترة ولايته الرئاسية على أدنى تقدير٬ يتعين على ملالي طهران منحه شيًئا ما. والعديد من أوجه الاتفاق النووي يسهل وصفها بـ«الملفقة»٬ فعلى سبيل المثال تحويل اليورانيوم المخصب إلى قضبان الوقود النووي٬ ولكن من دون توفير لقطات تلفزيونية جيدة. وحتى الآن٬ لا يصدق الجانب الأميركي شيًئا إلا ما يراه بارزا أمامه على شاشات التلفاز. لذا٬ فإنه للمحافظة على غبطة أوباما بالاتفاق٬ على الملالي أن يخرجوا بلقطة تلفزيونية ما تؤكد أن شيًئا ما قد حدث بالفعل.

هناك بندان من بنود «الاتفاق النووي» يحتمل أن تكون لهما جاذبية العرض التلفازي المنشود؛ البند الأول يتعلق بتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة على تخصيب اليورانيوم من واقع 20 ألف جهاز إلى نحو 5 آلاف. ويمكن لشبكتي «سي إن إن» و«فوكس نيوز» أن تعرضا كيفية تفكيك وإيقاف تلك الأجهزة٬ مع تعليق صوتي مرافق من خلال أحد الخبراء الذي يتفاخر بالانتصار الدبلوماسي التاريخي لإدارة الرئيس أوباما. والبند الآخر الممكن عرضه تلفزيونًيا يدور حول وقف العمل في مفاعل «آراك» للبلوتونيوم عن طريق ضخ كميات هائلة من الإسمنت فيه. ويمكن لذلك أيًضا أن يوفر لقطة فيلمية شديدة الروعة تثير التعليقات الحماسية من قبل لوبي الخداع والمراوغة الأميركي في العاصمة واشنطن.

ولكن هنا تكمن المشكلة. فلكي تكون مثل تلك الأشياء ممكنة٬ يتعين على أحدهم التوقيع على شيء ما لتفويض الموظفين البيروقراطيين والعمال الفنيين من أدنى درجات السلم الوظيفي بالحق في إيقاف عمل أجهزة الطرد المركزي و«خنق» مفاعل «آراك» حتى الموت بالخرسانة والإسمنت.

وبالنسبة لأولئك المطلعين على الدورة البيروقراطية الإيرانية٬ والتي تبلغ عامها الـ500 حالًيا في شكلها المروع الحالي٬ فإنهم يعلمون أن تنفيذ ذلك لا علاقة له بالسهولة من قريب أو بعيد. فلكي تتمكن من الحصول على نسخة من سند ملكية منزلك الخاص فأنت تحتاج إلى ما لا يقل عن 17 توقيًعا حكومًيا مختلًفا. وبالتالي٬ فلن تستطيع توجيه الأمر للموظفين في هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بإيقاف عمل أو تفكيك أي شيء من 10 آلاف جهاز للطرد المركزي بقوة المكالمة الهاتفية الآمرة من مكتب رئيس الجمهورية. يمكن لروحاني مخادعة أوباما من دون التوقيع على أي شيء على الإطلاق. غير أنه واقع الآن تحت رحمة مخالب البيروقراطية الإيرانية التي لا تعرف الرحمة.

كانت الفكرة الأولى تدور حول دعوة محمد جواد ظريف٬ وزير الخارجية٬ الذي لا حول له ولا قوة٬ إلى التوقيع على مثل ذلك التفويض.

كان ظريف٬ نجل أحد تجار السجاد٬ سريًعا بما فيه الكفاية للنأي بذاته عن الأمر برمته من خلال الإصرار الشديد على أنه كان متولًيا لرئاسة فريق المفاوضات٬ وليس إجراءات التنفيذ٬ حيث قال: «إن وزارة الخارجية معنية بشؤون السياسة الخارجية وليس بالشؤون المحلية الداخلية». بعد ذلك٬ انطلقت قطعة بطاطا التوقيع  الساخنة من أيدي السيد ظريف إلى ساحة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني ورئيسه الأدميرال علي شمخاني.

ومع ذلك٬ تملص الأدميرال السابق أيًضا من الأمر٬ مشيرا إلى أن المجلس الذي يترأسه يضطلع فقط بالأمور التحليلية والاستشارية وليس من سلطاته إصدار الأوامر لأي هيئة حكومية أخرى٬ والتي في تلك الحالة هي هيئة الطاقة الذرية الإيرانية.

كان الهدف التالي على قائمة التوقيع هو علي أكبر صالحي٬ رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية. فلماذاُيعرض عن التوقيع على التفويض الذي تعتبر هيئته في أمس الحاجة إليه للقيام ببعض الأمور التي قد تجعل من أوباما يبدو أقل إثارة للسخرية الدولية؟

وعلى الرغم من ذلك أيًضا٬ لم يكن صالحي٬ كذلك٬ ليبتلع ذلك الطعم. فلقد صرح قائلاً٬ أو راكلاً بقطعة البطاطا الساخنة بعيًدا عن يديه: «إن الهيئة تضطلع بالمسائل العلمية والفنية وليس من صلاحياتها اتخاذ القرارات ذات الطبيعة السياسية».

أما المرشح التالي للتوقيع على التفويض فكان علي أردشير لاريجاني٬ رئيس مجلس الشورى الإسلامي٬ أو ماُيعرف بالبرلمان الإيراني «المصطنع». فقبل ستة أشهر مضت كان لاريجاني من أشد المعارضين للاتفاق النووي الإيراني. ثم تحول على نحو عجيب إلى أحد أكثر المؤيدين للاتفاق حماسة. وتشير ألسنة النميمة الخبيثة إلى أن التغيير في موقف لاريجاني مرجعه إلى تأكيد جاءه ببقائه في منصبه «العتيد» بعد انتخابات المجلس المقبلة في عام 2016. وبعد انتهاك كل قاعدة برلمانية معروفة للحيلولة دون إخضاع الاتفاق النووي للمراجعة البرلمانية الاعتيادية٬ فإن لاريجاني ليس إلا الرجل المثالي للتوقيع٬ على حد زعم بعض المحللين.

وعلى الرغم من ذلك٬ ولأنه من ثعالب التاريخ المخضرمين٬ فإن علي لاريجاني يدرك تماًما من واقع التاريخ الإيراني المعاصر أن كل من يوقع على أي شيء مع القوى الأجنبية الخارجية يوقع كذلك٬ ومن دون شك٬ على وثيقة نهاية مستقبله السياسي بأسره٬ وربما حياته ذاتها في بعض الأحيان. لذا٬ خرج لاريجاني بتفسير مفاده أن المجلس الموقر يحمل السلطة التشريعية٬ وليس التنفيذية٬ وأنه وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات لا يمكنه بحال توجيه الأمر لهيئة الطاقة الذرية بتنفيذ أي قرار.

لبرهة وجيزة٬ تلاعب أحدهم بفكرة أن يقوم المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي بالتوقيع بنفسه على الاتفاق. لكن بموجب الدستور الذي أقره الخميني٬ فإن المرشد الأعلى يمكنه إصدار «الحكم الحكومي» أو ماُيعرف بـ«المرسوم الحكومي الرسمي» حيال أي أمر يجري تحت شمس إيران الساطعة٬ حتى إنه يمكنه إصدار الأمر بإيقاف التعامل بقواعد الدين الإسلامي نفسه إذا ما ارتأى ذلك. غير أنه٬ وبالطبع٬ لن يوقع على «الاتفاق النووي»٬ وذلك لأنه يفضل ممارسة سلطاته من دون تحمل مسؤولياتها. فإذا ما عاد الاتفاق النووي بنتائج طيبة٬ فسوف يدعي لنفسه كل الفضل٬ وإذا ما أخفق الأمر فسوف يضع الرئيس روحاني و«رفاقه الموالين للأميركان» رهن الإقامة الجبرية. والآن٬ تعود قطعة البطاطا الساخنة إلى أيدي السيد روحاني مرة أخرى.

يتساءل الناس: لماذا لا يوقع روحاني بنفسه على أوراق التفويض اللازمة لتفكيك أجهزة الطرد المركزي وإغلاق مفاعل البلوتونيوم بالإسمنت؟ على أي حال٬ تعتبر هيئة الطاقة الذرية الإيرانية جزًءا من مؤسسة الرئاسة هناك٬ ويحمل رئيس الهيئة لقب «مساعد رئيس الجمهورية».

يدرك روحاني٬ على غرار لاريجاني٬ أنه إذا ما مهر الاتفاق بتوقيعه فلسوف يلتحق اسمه وللأبد بمقامرة سياسية قد ترجع بنتائج شديدة السوء والوطأة على إيران. إنه في حاجة إلى ماُيعرف في الأوساط السياسية بأنه «الإنكار المقبول»٬ والذي يعني إلحاق اللوم بشخص آخر في حال تبين أن ما صنعه كان خطأً فادًحا.

والأسبوع الماضي٬ ومن خلال البحث العميق في مصطلحات «التقية» (الإخفاء)٬ و«الكتمان» (التظاهر)٬ و«التمكير» (المخادعة)٬ والتي تتجذر أصولها في أعماق فقهاء الملالي٬ يبدو أن روحاني قد عثر على ضالته المنشودة للخروج بصيغة بالغة الدهاء.

وتتبدى الفكرة في أن هيئة الطاقة الذرية الإيرانية تمتلك 10 آلاف جهاز قديم من أجهزة الطرد المركزي كانت قد خرجت بالفعل من الخدمة وفككت٬ وتم تصوير الأمر بأكمله وإرساله إلى الولايات المتحدة لإسعاد رئيسها باراك أوباما قبل الميعاد النهائي لـ«بداية التنفيذ» بحلول 15 ديسمبر (كانون الأول) المقبل. ومع ذلك٬ فإن تلك الحيلة الذكية لم تخل من المشكلات.

فالمتحدث الرسمي باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية٬ السيد بهروز كمال فندي٬ وهو من علماء الذرة وليس من رجال السياسة٬ قد ترك الأمر يخرج عن الطوق لما صرح لوسائل الإعلام بأن الفيلم المصور يتضمن أجهزة الطرد المركزي القديمة وغير المستخدمة حالًيا!

وبعد ذلك٬ قال موظفو الهيئة الذرية إنهم لا يمكنهم التخلص من أجهزة الطرد المركزي القديمة من دون إصدار أمر كتابي رسمي نظًرا لأنهم٬ أيًضا٬ يخشون من المستقبل الذي يوصمون فيه بـ«الخونة» أو «الصهاينة» لتنفيذ تلك الخطوة من دون أوامر رسمية بذلك الشأن تصدر من السلطات العليا في البلاد.

عاد السيد كمال فندي٬ المصاب بحرج بالغ٬ إلى شاشات التلفاز ليصر على أنه «لم يتم تفكيك أي شيء حتى الآن»٬ وأن «البرنامج النووي الإيراني يسير في طريقه المرسوم من دون أي تغييرُيذكر». وأضاف: «لم تأتنا أي تعليمات لتنفيذ أي شيء آخر».

في طهران٬ تستمر قطعة البطاطا الساخنة في تلقي الركلات٬ بينما لا يزال أوباما في انتظار فيلمه التلفزيوني مع اقتراب موعد الخامس عشر من ديسمبر المقبل!