IMLebanon

الجوار العربي … إيران وتركيا وإسرائيل

تعد الأزمة الحالية في العلاقات بين قطر وكل من السعودية والامارات والبحرين بالإضافة إلى مصر أزمة كاشفة أدت إلى إظهار بعض الحقائق وتعرية عدد من المواقف وفتح باب الحوار البناء للوصول إلى حل نهائي يؤدي إلى قوة مجلس التعاون الخليجي في جانب وتحسين العلاقات بين القاهرة والدوحة في جانب آخر، وهي العلاقات المتدهورة والمتذبذبة منذ أكثر من عقدين من الزمان، والأسباب في الأزمة الحالية بين قطر والدول الأربع متراكمة ومعقدة ويصعب الوصول فيها إلى حل سريع لأن أصعب الخلافات على الإطلاق هي خلافات الأشقاء، حتى لو كانت المظلة المشتركة هي مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، ولكن أخطر ما أدت إليه هذه الأزمة من خلال قراءة ملفاتها ثم يومياتها هو أنها معقدة بسبب طبيعة الدور القطري في السنوات الأخيرة ونتيجة الضغوط الأجنبية والتدخلات الخارجية التي أدت إلى اهتزاز كثير من الثوابت، وهو ما دفع العقلاء من الأطراف كافة إلى محاولة احتواء الأزمة والوصول إلى مرحلة من التهدئة تؤدي إلى وقف التصعيد وتسمح بإعادة تصحيح المسار واستعادة الثقة المفقودة والحفاظ على الوحدة الإقليمية لمنطقة الخليج التي تعتبر أكثر المناطق العربية تجانساً تاريخياً واندماجاً سكانياً.

وكان أبرز نتائج تلك المواجهة في أيام الصيف الحار هو ما كشفت عنه من علاقات متشابكة بين دول الجوار، خصوصاً إيران وإسرائيل وتركيا، من محاور واتصالات معقدة مع الأطراف المختلفة في المنطقة، ولذلك يهمني في هذا المقال أن أطرح مواقف هذه الدول الثلاث مما جرى في الفترة الأخيرة واضعين في الاعتبار الخلفية الأميركية للمشهد برمته.

دعنا نبحث في ذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً: تبدو «إيران الثورة الإسلامية» لاعباً نشطاً في منطقة غرب آسيا بل تسللت إلى بعض الدول الإفريقية أيضاً، فلإيران حضور قوي في العراق ووجود سياسي وعسكري في سورية ونفوذ ملموس في لبنان، أي أننا أمام حالة انتشار استراتيجي تسعي منها طهران إلى تطويق العالم العربي تأكيداً لدورها كشرطي للخليج وقوة مؤثرة في المنطقة أمام الوجود الغربي، خصوصاً الولايات المتحدة، كما سعت في السنوات الأخيرة إلى مد نفوذها في جنوب الجزيرة العربية وراهنت على الجماعات الحوثية وغيرها من قوى التمرد على الأوضاع في اليمن، بل تباهت طهران ذات يوم بسقوط صنعاء في إطار نفوذها كرابع عاصمة عربية، من وجهة نظرها، بعد بغداد ودمشق وبيروت. وحاولت إيران التقارب مع بعض دول الخليج فاستثمرت سياسة الحياد التي تتبعها مسقط في ظل حكم السلطان قابوس واستثمرت أكثر من ذلك حالة التفرد والتغريد خارج السرب العربي والخليجي التي مارستها دولة قطر لكي تشق الصفين العربي والخليجي وتمارس تأثيراً سلبياً على المنطقة موفرة ملاذاً آمناً لعناصر التطرف وفلول الإرهاب في غرب آسيا والشرق الأوسط بل في شمال إفريقيا أيضاً. وعندما طال صبر العرب عموماً والخليجيين خصوصاً جرت المواجهة الأخيرة التي خرجت من إطارها القومي إلى مستواها الإقليمي ثم بُعدها الدولي بحيث ظهرت إيران داعمة قوية لنظام الحكم في الدوحة على رغم المعاناة المتكررة من سياساتها التي تفرق وتقسم وتقوم غالباً على منطق متناقض وغامض وغير مفهوم أحياناً، فهي مع حركة «فتح» وحركة «حماس» وفي الوقت ذاته مع علاقة قوية مع إسرائيل، ولا شك في أن إيران رابحة من الخلاف الحادث في مجلس التعاون الخليجي وهي تسعى للاستفادة من ذلك الوضع على الأصعدة كافة، وترى أن ما حدث يصب في مصلحتها ولو مرحلياً.

ثانياً: إن سياسة تركيا تجاه المشرق العربي بل والعالم الإسلامي كله تقوم على الاستعلاء وأوهام الإرث التاريخي للخلافة العثمانية، حتى أن رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان يتصرف أحياناً وكأنه سلطان يحكم في القرن التاسع عشر ويضرب عرض الحائط بالديموقراطية والحريات العامة، والغرب يصفق له لأن تركيا عضو في حلف الأطلسي وهي تمثل الامتداد الأخير لأوروبا في الجنوب والشرق مع تأثير فاعل في منطقة البحر الأبيض المتوسط وإقليم البلقان وربما لا تكون بعيدة من البحرين الأسود وقزوين بتأثيراتها الثقافية وإرثها التاريخي الطويل. ولقد كان حلماً تركياً ووهماً يراود أردوغان أن يدخل الجيش التركي إلى أرض الخليج وها هو حلمه قد تحقق بتواجد قوات تركية على أرض دولة قطر بعد المواجهة الكاشفة بينها وبين أشقائها في الخليج والعالم العربي على نحو غير مسبوق. وليس خافياً أن للأتراك أجندة اقتصادية تضع منطقة الخليج العربي في صدارة اهتماماتها فضلاً عن مشروع إسلامي جرى إجهاضه بالضربة الحاسمة التي وجهتها مصر عام 2013 لحكم جماعة «الإخوان المسلمين»، ولا شك في أن تطلعات أردوغان وأركان حزبه إنما تقوم على انقاض العمل العربي المشترك ووحدة دول الخليج بحيث تتقدم تركيا بما لديها من إمكانات اقتصادية وقوة عسكرية لتحقيق تأثير كبير في مجالها الحيوي، خصوصاً في الوطن العربي بدءاً من سورية إلى دول الخليج. ولقد حاولت أنقرة انتهاز فرصة ما جرى لتحقيق طموحاتها في ظل هذه الظروف الاستثنائية الطارئة على مجلس التعاون العربي مستغلة الوضع في سورية وقبلها في العراق فضلاً عن الظروف الصعبة التي تمر بها مصر. لذلك ليس لدينا شك في أن تركيا هي إحدى الدول التي قدمت تسهيلات لوجستية لتنظيم «داعش» وتعاونت مع قطر على تمويل بعض عناصره في محاولة لتغيير خريطة المنطقة لمصلحة المشروع المطروح الذي بشرت به تركيا ودعمته دولة قطر وساهمت فيه قوى أخرى في المنطقة، ونلاحظ أن العلاقات التركية – السعودية والتي تميزت بالتوازن المستمر، قد تأثرت هي الأخرى بفعل تصرفات تركيا الأخيرة وإنزال قواتها في إحدى الدول الخليجية خلال ظرف تاريخي حساس أدى إلى أزمة حادة بين الإخوة العرب والأشقاء الخليجيين.

ثالثاً: إن إسرائيل هي العقل الذي يختفي وراء كثير مما نشهده في المنطقة وهي تفرك يديها في سعادة حين ترى تركيز العرب على مخاطر إيران بدلاً من الخطر الإسرائيلي الطويل المدى، خصوصاً بعد أن حاولت الولايات المتحدة تشكيل جبهة عربية في مواجهة الخطر الإيراني الذي ظهرت آثاره الواضحة في السنوات الأخيرة، ولا شك في أن واحداً من الأحلام التاريخية لآباء الحركة الصهيونية هو اختراق بلاد النفط العربي، وقد يقول قائل إنه لا يمكن أن تكون إيران وإسرائيل وتركيا حلفاء في جبهة واحدة في إطار صراع إقليمي، ولكننا نرد عليهم قائلين إن المصالح تتصالح وقد يلتقي نقيضان في موقف سياسي معين، ولا يخالجنا شك في أن إسرائيل نسقت كثيراً مع السياسة القطرية وشجعت الدوحة بشكل مباشر وغير مباشر على أن تمضي في طريقها الذي سلكته في العقود الأخيرة، كما أن إسرائيل لا تبدو بعيدة من موجات الإرهاب في المنطقة بمنطق الاتفاق الصامت والتعهد غير المكتوب، ولا شك في أن إسرائيل تسعى هي الأخرى إلى التواجد الفعال في منطقة الخليج مثلما فعلت إيران وتركيا، ولعل من التأثيرات القوية التي دفعت الدوحة إلى مزيد من الشطط والتشدد، الإحساس بذلك الدعم الثلاثي غير العربي من دول الجوار إيران وتركيا وإسرائيل.

هذا عرض لتأثير القوى الثلاث غير العربية على سياسات المنطقة وهو يقوم على نظرية التدخل الخارجي في الشأن العربي، خصوصاً الخليجي، ولقد حان الوقت لكي ندرك أننا مستهدفون من كل اتجاه ولو نظرنا إلى واشنطن فإننا سوف نجد أن حكم «أسرة ترامب»، وهو التوصيف الدقيق لما يدور في البيت الأبيض، يمر بحالة من التذبذب في الرأي والاختلاف في التصريحات، إذ يبدأ الرئيس الأميركي بموقف ثم يختلف معه وزير الخارجية ويتناقض معه وزير الدفاع أيضاً، وتلك هي خلفية المشهد الذي تتحرك على مسرحه القوى الإقليمية الثلاث غير العربية في الأزمة القطرية الأخيرة.

إن الولايات المتحدة تلعب على كل الأطراف، وتخفي تعاطفاً مكتوماً مع الدور القطري الذي سعى في بعض مراحله إلى تمزيق المنطقة ولعب دوراً مشبوهاً يبدو غير مسبوق في تاريخنا العربي المعاصر فضلاً عن اختراق الروح العربية والخليجية من أجل تحقيق أهداف لا تخدم إطلاقاً المصالح القومية العليا للأمة العربية.