IMLebanon

هل بدأ «حزب الله» حسمَ خياراته في ملفّ النازحين؟

للمرّة الأولى، خرَج «حزب الله» عن تحفُّظِه و»بقَّ البحصة» بلسان النائب محمد رعد: المليون ونصف المليون نازح سوري هم «قنبلة موقوتة». ولم يعُد هناك مجال لفكّ الارتباط بين النازحين السوريين والنازحين الفلسطينيين في لبنان. وفي اعتقاد البعض أنّ أكثر مِن نصف مليون نازح فلسطيني، على الأراضي اللبنانية، هم أيضاً جزء من القنبلة إيّاها. فهل وصَل «الحزب» إلى استحقاق المواجهة مع «قنبلة المليونين» السورية – الفلسطينية؟

يَسأل كثير من المحلّلين: لماذا سكَت «حزب الله» طوال 5 سنوات عن تدفُّق النازحين إلى لبنان، بما يُرافقه من مخاطر، وهو الذي لا يدَع أيّ شاردة أو واردة تمرّ في لبنان إلّا ويُجري لها الحسابات الدقيقة؟

الأجوبة هنا هي غالباً ذات طابع إنساني ووجداني، لكنّها لا تكفي لتبرير السكوت. ويقول البعض إنّ «الحزب» لم يكن في الأساس قادراً على التحكُّم تماماً بملف النازحين السوريين، بحيث «يسَكِّر الحنفية» عبر الحدود، لأنّ الأمر كان خارج طاقته: «مُكرَهٌ أخوك لا بطل».

فغالبية المعارك التي خاضَها «الحزب» في سوريا جرَت في المناطق الحدودية التي لم يكن أمام أهلها سوى الحدود اللبنانية الآمنة. وفي أجواء الفلتان ذهاباً وإياباً يستحيل ضبط المعابر، خصوصاً أمام المدنيين.

لكنّ آخرين يعتقدون أنّ «الحزب» أراد التهاون قصداً مع تدفُّق النازحين السوريين والفلسطينيين. وهو لم يتدخَّل في الملف إلّا في جانبه الأمني، خصوصاً بعد موجة التفجيرات الانتحارية التي ضربَت الضاحية والهرمل.

فقد اكتفى بترتيبات أمنية احتياطية موضعياً، واستعانَ بالاعتدال السنّي اللبناني لمواجهة التطرُّف السنّي السوري، تحت مظلّة الحكومة السلامية. وأمّا الخطوة الأولى للحدّ من التدفّق فكانت مطلع 2015، عندما اتّخذ لبنان الرسمي تدابير حدودية وقانونية أدّت إلى تراجع وتيرة النزوح.

ويقول البعض: «إذا كان «الحزب» بارعاً في استقراء المعطيات وتوقُّع العواقب، وإذا كان يمتلك التصوّر الكافي عن مخاطر النزوح عليه وعلى لبنان، فلماذا سكتَ عن تفاقم ملفّ النازحين إلى حدِّ بلوغه درجة «القنبلة الموقوتة»؟

يقول البعض إنّ «الحزب» رغِب في إبقاء نفسِه بعيداً عن أيّ شبهة بالمذهبية ضد السنّة، أو بالعنصرية ضد السوريين، فيما هو يَعمل لإزالة الملابسات التي تؤذي صورته سوريّاً وعربيّاً وإسلاميّاً منذ أن دخلَ المعارك في سوريا. لكنّه في الموازاة، يحتاج إلى ملف النازحين كورقة سياسية، لتحقيق أهداف معيَّنة، سواءٌ في لبنان أو في سوريا:

1 – يمكن «حزب الله» أن يستخدم ورقة النازحين السوريين لدفعِ الحكومة اللبنانية إلى فتح حوار مع نظام الرئيس بشّار الأسد. ففي المفاوضات الدولية حول التسويات النهائية، وخصوصاً حول اللاجئين، سيكون الأسد معنيّاً بالملف، وسيضطرّ لبنان الرسمي إلى محاورته وترميم الجسور التي انقطعَت بين بيروت ودمشق في ربيع 2005.

2 – إنّ نزوح مئات الألوف من السوريين من مناطق مجاورة للحدود اللبنانية وإفراغها، يسهِّل سيطرةَ النظام و»الحزب» عليها. ويبدو أنّ التسويات المقبلة في سوريا ستتمّ وفقاً لنموذج المقايضة الديموغرافية – الأمنية التي جرت أخيراً بين مناطق سنّية في الزبداني ومناطق شيعية في إدلب (الفوعة وكفريا).

3 – لطالما رفعَ «الحزب»، في وجه الذين يطالبونه بالتخلّي عن سلاحه، شعار: الحاجة إلى قوة لبنانية قادرة على مواجهة مؤامرة التوطين التي تسعى إسرائيل إلى فرضها. ومع إضافة عامل النزوح السوري، سيكون بديهياً رفعُ عنوان التوطين السوري في موازاة التوطين الفلسطيني، مع اختلاف العدوّ: إسرائيل هنا والإرهاب التكفيري هناك.

4 – أظهرَت الانتخابات الرئاسية السورية التي جرت في أيار 2014، والتي اقترع فيها النازحون السوريون في السفارة السورية في بعبدا، أنّ جزءاً من هؤلاء اضطرّوا إلى الاقتراع للأسد، لأنّ لهم حساباتهم المتعلّقة بمستقبلهم ومستقبل أرزاقهم وعائلاتهم في سوريا.

فالنازحون الذين يتعاطفون اليوم بغالبيتهم مع المعارضة، قد يصبحون مرّةً أخرى ورقةً يَستخدمها النظام في لبنان، إذا انقلبَت التوازنات، كما كانوا خلال فترة الوجود العسكري السوري.

5 – إنّ وجود مئات الألوف من المدنيين السوريين في مناطق واقعة تحت نفوذ «حزب الله» يُعتبَر عاملَ قوّة له. فهؤلاء يمكن اعتبارُهم ورقة ضاغطة يمكن استخدامها إذا تعرَّض المدنيون في مناطق شيعية أو علوية في سوريا للضغوط.

ولذلك، لم يشارك «حزب الله» حليفَه النائب ميشال عون مواقفَه الحادّة ضد النازحين، مع أنّ الهواجس التي تنتاب المسيحيين لجهة اختلال التوازن الديموغرافي، نتيجة التوطين المقنّع، السوري والفلسطيني، هي إيّاها هواجس الشيعة والدروز أيضاً.

فالجميع يُجري حسابات ديموغرافية «فجَّة» ولكنْ واقعية: من ناحية وطنية واجتماعية، الجميع منزعِج من تنامي الخَلل بتدفّق النازحين. ولكنْ مذهبياً، يَشعر بعض السنّة بأنّ تدفُّق النازحين ربّما يشكّل القوة السنّية المقابلة لـ«حزب الله»، وبأنّ العامل الديموغرافي يمكن أن يخلقَ توازن رعبٍ مقابل عامل السلاح.

فإذا كان في لبنان مليونا لاجئ سوري وفلسطيني، وإذا كان سكّان لبنان 4.5 ملايين نسمة، ثلثُهم تقريباً من السنّة، أي 1.5 مليون نسمة، فمعنى ذلك أنّ سكّان لبنان المقيمين هم حاليّاً، وحتى إشعار آخر، كالآتي: 3.5 ملايين سنّي و3 ملايين نسمة، بين شيعي (يمتلك السلاح) ومسيحي ودرزي (لا يمتلكان السلاح).

إذاً، فالسُنَّة القاطنون في لبنان اليوم، بين لبنانيين ونازحين مقيمين لعشرات السنين ربّما، يقاربون 55 في المئة من مجمل السكّان، والباقون معاً 45 في المئة. وفي ظلّ التطوّرات المتوقعة في سوريا، بما سيرافقها من عمليات تهجير قسري وهجرة، سيَزداد التدفّق إلى لبنان حتى حدود غير معلومة، وسيتّسع الفارق بين المكوّنات الديموغرافية في لبنان. وتمضي قوى دولية وإقليمية في تحويل أزمة اللاجئين مجرّد أزمة مساعدات ودولارات.

وتمارس ضغوطاً على لبنان لتطبيع أوضاع النازحين إليه، واقعياً، وهي ترسم خططَ المساعدات للسنوات الخمس المقبلة. وهذا ما سيهزّ الصيغة اللبنانية التي تتعرّض للاهتراء أساساً.

فأزمة النازحين تتزامن مع رغبة «حزب الله» في بلوغ المؤتمر التأسيسي. وسيكون الخلل الديموغرافي المكرّس واقعياً، لا على الورق، عاملاً مؤثّراً.

المتابعون يسألون: إذا كان الاتّجاه في سوريا هو جعلُ «سوريا المفيدة»، أي البقعة الممتدّة عبر الحدود مع لبنان، تحت نفوذ شيعي – علوي، مدعومة بمنطقة نفوذ «حزب الله» من الجهة اللبنانية، فهذا يعني أنّ على لبنان أن يذهبَ في أحد الاتجاهات الآتية:

– أحد أنواع التقاسم لمناطق النفوذ الأمني والسياسي على غرار سوريا، بحيث يَبسط «الحزب» نفوذه على المناطق الحدودية. وهذا يحلّ مشكلة السلاح تلقائياً.

– أن يبقى لبنان دولةً مركزية، ولكنْ خاضعة بكاملها لنفوذ «حزب الله». وهذا الخيار يبدو أصعب لأنه يَقتضي رضوخ كلّ الفئات الأخرى لهذا النفوذ، في شكل دائم وكامل.

– أن يتخلّى «الحزب» عن سلاحه ونفوذه ويسلِّم القرار إلى الدولة، وهذا غير متوقّع أيضاً.

عند المباشرة بالبحث عن التسويات، سيكون لبنان أمام التحدّي المصيري: كيف سيتوازن في ظلّ الخلل المتنامي سريعاً بسبب تدفّق النازحين، وهو القائم على أرجوحة دقيقة جدّاً بين مجموعات طوائفية ومذهبية؟

ولذلك، ربّما يكون «حزب الله» قد بدأ بحسمِ خياراته في مواجهة التوطين المقنّع، مع تعذّر عودة السوريون إلى ديارهم بسبب استمرار الحرب بلا أفق زمني هناك، واستحالة عودة الفلسطينيين، وإغلاق أوروبا وأميركا أبوابَها في وجه اللاجئين.

وخيارات «الحزب» قيد الدرس، لكنّها، على الأرجح، تبدأ بترتيب أوضاع النازحين، بأعداد مقبولة، في مناطقه، وتحت إشرافه ورصدِه الأمني الكامل. وهذا ما سيَدفع بنازحين كثُر إلى مناطق لبنانية أخرى، إلى أن يتقرَّر مصير سوريا والسوريين ولبنان واللبنانيين.

وسيحاول «حزب الله» الإفادةَ مِن ملف النازحين. لكن الخط الأحمر في نظرِه هو بقاؤهم تحت سيطرته. وحتى اليوم، لم يَحدث ما يوحي بأنّ هؤلاء خرجوا عن السيطرة، لا في المناطق الشيعية ولا سواها. وأساساً، ليس في استطاعة أحد في لبنان أن يخرج عن السيطرة. كلّه مضبوط.