IMLebanon

هل لا تزال إسرائيل «العدو» فعلاً؟

ما خَفي

حان وقت الخروج من الأوهام: إن القسم الأكبر من الدول العربية يقيم اليوم علاقات علنية أو سرية مع إسرائيل. ولذلك فهي مرتاحة أكثر من أي وقت مضى وتستغل 85 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية وفق مركز الإحصاء الفلسطيني. وهي سوف تهوّد البشر والحجر وشجر الزيتون والتين والرمان.

حان وقت المصارحة: إن النظام العربي الرسمي الجديد، يفتح أبواب التطبيع الكامل، لحماية نفسه أو بسبب الصراع مع إيران. أما الشعوب العربية، فهي كعادتها لن تغير شيئاً حتى ولو كانت قلوب بعضها لا تزال تنبض بحب فلسطين اليتيمة المكلومة من كل غزة وضفة وحدب وصوب. انتهى زمن الصراع العربي الإسرائيلي وبقيت مقاومات موسومة بالإرهاب وملاحقة أو منخرطة في حروب كثيرة.

دعونا نلاحظ الأمور التالية:

÷ مصر طليعة الدول العربية التي عقدت معاهدات سلام (كامب دايفيد 1978)، علاقاتها اليوم ممتازة مع إسرائيل. سمح لها ذلك باستخدام أسلحة ومساحات أوسع مما تنص عليه المعاهدة في سيناء. هذه سابقة منذ 38 عاماً. وبعد أن ضيقت الخناق على حماس وغزة والمعابر، ها هي مصر تسلّم الآن جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية. هل حصل تنسيق مسبق مع إسرائيل أو أميركا؟ ربما، لكن الأكيد أن للجزيرتين دوراً في مستقبل العلاقات مع إسرائيل في خليج العقبة والمعابر البحرية.

÷ السعودية: ذات الثقل الإسلامي الأكبر، يقول عنها نتنياهو اليوم: «إن السعودية ترى في إسرائيل حليفاً وليس تهديداً، وإن دولاً كثيرة غير المملكة في العالم العربي باتت كذلك». صدرت قبل موقفه هذا بعض المؤشرات اللافتة، ومنها مثلا مقال للأمير السعودي تركي الفيصل في «هآرتس» ثم مقابلة له معها شدد فيها على السلام. سبقته قبل سنوات مبادرة سعودية للسلام صارت في القمة العربية في بيروت عام 2002 مبادرة تطبيع كامل. آنذاك قيل إن المبادرة جاءت لتخفيف الضغوط الأميركية عن الرياض والتي تفاقمت بعد اتهام 15 سعودياً بالتورط في العمليات الإرهابية التي ضربت نيويورك عام 2001. لولا الموقف الصارم للرئيس اللبناني إميل لحود، لكانت المبادرة العربية تخلت عن حق العودة بموافقة ضمنية من الرئيس عرفات نفسه الذي كان يموت ببطء في مقاطعته المحاصرة بالدبابات والحقد الإسرائيلي.

÷ العراق، ما عاد قادراً أو ربما راغباً، بوقف اوتوسترادات العلاقات بين شماله الكردي وإسرائيل، حيث توريد النفط من كردستان عبر تركيا إلى المصافي الإسرائيلية ما عاد سراً. (ربما بعض العلاقات لا يقتصر على الشمال ولا على الكرد).

÷ السودان الذي ساهمت إسرائيل بتدريب متمرديه الجنوبيين سابقاً، انفصل جنوبه، وشهد خلال السنوات الماضية حضوراً إسرائيلياً تجارياً وأمنياً وسياسياً لافتاً. لنتذكر أن أول زيارة رسمية إلى الخارج قام بها رئيس السودان الجنوبي سلفاكير ميارديت كانت إلى إسرائيل. هذا لم يمنع السودان من إقامة سفارة له في الجنوب.

هذه 4 دول عربية كبيرة وكانت مركزية في الحروب العربية الإسرائيلية. نضيف إليها الدول التالية التي خرجت عملياً من الصراع: الأردن (معاهدة وادي عربة)، موريتانيا (سفارة إسرائيلية منذ 1999)، تونس (مكتب لرعاية المصالح منذ 1996) المملكة المغربية (مكتب ارتباط منذ 1994) قطر (افتتاح مكتب تجاري منذ 1996 واتفاقيات كثيرة لاحقاً بينها الغاز) سلطنة عمان (مكتب للتمثيل التجاري منذ 1996). الإمارات العربية (تأشيرة للاعب تنس إسرائيلي وإعلان وزارة الخارجية الإسرائيلية العام 2015 عن افتتاح ممثلية ديبلوماسية لدى وكالة الأمم المتحدة للطاقة المتجددة في أبو ظبي).

مبرر الانفتاح على إسرائيل، هو أن أصحاب البيت والأرض، أي السلطة الفلسطينية فتحوا كل العلاقات مع إسرائيل (بعد يأسهم من النظام العربي القديم الذي همّشهم حتى في أول مؤتمر للسلام في مدريد).

من يقاوم اليوم؟

تكاد المقاومة العربية تنحصر اليوم بتيارات إسلامية: «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد»، مع إضافات أخرى من الجبهتين الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة وغيرها (لو كنتم تتذكرونها).

مشكلات هذه المقاومات متنوعة: ففي لبنان هي شيعية الطابع ومدعومة من إيران وسوريا. لأنها كذلك فهي تثير ريبة البعض أصلاً على أساس أنها ذراع إيرانية في المنطقة العربية (لنتذكر مبارك والملك عبدالله الثاني وكلامهما عن هلال شيعي).

وفي فلسطين، المقاومة إما مناهضة لما يراد تسميته بخط «الاعتدال» الفلسطيني أو محسوبة على الإخوان المسلمين، لذلك صارت منبوذة في أكثر من دولة عربية. وحين اتُهمت حماس بالتورط في مصر وسوريا، ازداد نبذها ووصل إلى حد تخوينها وتخوين كل فلسطيني حتى يثبت العكس.

تضحيات «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد» والتنظيمات الفلسطينية اليسارية الأخرى، تواجه اليوم وضعاً حرجاً. فكل هذا المحور المقاوم (المنقسم على نفسه أيضاً خصوصاً بين «حماس» و«حزب الله» وسوريا)، متهم بالإرهاب دولياً وعربياً ومن منظمة المؤتمر الإسلامي. ثمة آلة إعلامية هائلة تعمل على ضرب سمعة هذه المقاومة، يساعدها في ذلك انخراط «حزب الله» في الحرب السورية وحروب أخرى ربما مثل العراق واليمن مباشرة أو عبر التدريب والنصح. يساعدها في ذلك أيضاً تصريحات إيرانية تتحدث عن «السيطرة على 4 عواصم عربية».

ما المقصود ما المتوقع؟

تشكو دول خليجية ومعها حلفاؤها من «تدخل إيراني» في المحيط العربي. تشاركها مصر ضمناً وعضوياً هذا القلق. تشعر هذه الدول أن إيران خطفت منها وهج فلسطين، ازداد قلقها وقلق إسرائيل خصوصاً بعد توقيع الاتفاق النووي بين الغرب وإيران واستعادة القيادة الإيرانية مبالغ مالية كبيرة واستئناف حركتها الاقتصادية والنفطية.

مشكلة هذه الدول العربية، أنه بعد القضاء على قيادات سنية بارزة في قيادة المواجهة مباشرة أو عبر التمويل سابقاً ضد إسرائيل (ياسر عرفات، صدام حسين، الشيخ أحمد ياسين، معمر القذافي …الخ) تجد نفسها أمام احتكار إيران لقيادة المواجهة مع الكيان الإسرائيلي.

مشكلتها أيضاً تكمن في اختلال التحالفات التقليدية مع الغرب الأطلسي. يكفي أن نشاهد النقاشات في الكونغرس أو الاتحاد الأوروبي أو في الإعلام الغربي لندرك حجم الهجوم على السعودية مثلاً بسبب الإرهاب وتمويله. (في بعض الجامعات الأميركية يتعرض الطلاب السعوديون للضرب والإهانة).

إسرائيل دخلت من هذين البابين، أي القلق من إيران، والضغوط الأميركية والغربية، لتقنع دولاً عربية بأن الخلاص هو تشكيل جبهة مشتركة تضمها مع تركيا وفرنسا لمواجهة التمدد الإيراني وإحراج واشنطن. تحقق فعلاً جزء من هذا. تكشف مثلاً وثائق ويكيليكس كيف أن وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان قال لهيلاري كلينتون إن خطر إيران يقلق بلاده أكثر من إسرائيل. وهو ما قاله أيضاً وحرفياً وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفه وغيره.

ماذا بعد؟

أمام مشهد الخراب العربي والحرائق المشتعلة، لم تعد فلسطين أولوية ولا عادت إسرائيل هي العدو الأول للنظام العربي الجديد أو العتيد. دول كثيرة فتحت وتفتح علاقات معها. دول أخرى غارقة في حروبها ودمارها الداخلي، دول ثالثة تنشد الحياد.

هل يستطيع «حزب الله» والحركات الإسلامية وبعض المنظمات الفلسطينية المواجهة لوحدهم؟ وماذا لو طال الاستنزاف، هل ثمة إمكانية فعلية للصمود؟ ماذا لو وقعت الحرب بين إسرائيل و«حزب الله» مثلاً؟ إلى جانب من سيقف النظام العربي الجديد؟

اللافت أن التنظيمات الجهادية أو التكفيرية أو الإرهابية الحديثة لا ترى في قتال إسرائيل أولوية ولا ربما غاية.

ربما لدى إيران القدرة على المواجهة الكبرى، ولدى الحزب الإمكانية لإحداث مفاجآت استراتيجية كبيرة كما يُنذر السيد حسن نصرالله، لكن لا شك أن الحزب فقد الاحتضان العربي الكبير الذي رافق صفعته التاريخية لإسرائيل عام 2006.

إيران ـ إسرائيل، أي مستقبل؟

صحيح أن إيران لا تزال تعتبر إسرائيل سرطاناً يجب استئصاله، لكن الصحيح أيضاً أن إيران الراغبة بالانفتاح على الغرب، خصوصاً عبر تيارها الإصلاحي، ربما لا تمانع مستقبلاً في تعديل الاستراتيجيات. قد لا يضيرها مثلاً أن توافق هي وسوريا والحزب على هدنة في الجبهات مع إسرائيل، تماماً كما كانت الحال عند الحدود اللبنانية الإسرائيلية على مدى السنوات الماضية. هذا لن يعني بالنسبة لها اتفاقية سلام، ولكنه يجعلها شريكاً دولياً بامتياز تستطيع معه الالتفاف على الضغوط العربية والإسرائيلية والإسلامية والتركية.

بانتظار ما قد يجري، فإن إسرائيل المرتاحة إلى ظهرها العربي، تقضم علانية ما بقي من فلسطين وتقضم ما بقي من أحلام فلسطينية وعربية. وأما اليأس الفلسطيني فقد وصل إلى درجة صار شابٌّ في مقتبل العمر يحمل سكيناً ويحاول طعن إسرائيلي وهو مدرك سلفاً أنه لن يعود، تماماً كما قد لا تعود فلسطينه مطلقاً بعد أن قضت الحرائق العربية والصراع السعودي الإيراني والإرهاب على حق العودة الذي احترق في المخيمات من نهر البارد الى اليرموك…

لا بد من نهضة عربية غير رسمية، تعيد البوصلة إلى مكانها الصحيح. نهضة لا تفرّق بين سني وشيعي ولا بين مسلم ومسيحي وتقفز فوق الصراع السعودي الإيراني وفوق كل صراع لوقف الحرائق وإنقاذ ما بقي من فلسطين. فإسرائيل التي تغازل هذه الدولة أو تلك، لا تريد لنا جميعاً سوى الدمار أو الخنوع من الرياض إلى بغداد فدمشق والقاهرة وبيروت.