IMLebanon

ثرثرة إسرائيلية

تأمّلْ قليلاً في الخطاب الإسرائيلي الموجه إلى لبنان منذ عام 2006 بالحد الأدنى، ستجد أن هناك عدّادين يعملان بشكل نسقي طوال الوقت، أو معظمه. الأول، يحصي عدد صواريخ حزب الله، والثاني يحصي عدد السنوات التي ستعيد إسرائيلُ لبنانَ إليها، إلى الوراء، في الحرب القادمة معه. الأول، بدأ من «شقلة» العشرين ألفاً، ثم بدأ يقفز في مناسبات عدة: 50 ألفاً، فـ70، 80، 100، 110 آلاف، ثم استقر مؤشره البياني عند رقم 150 ألف صاروخ (بحسب تقرير للقناة الثانية الإسرائيلية في 15 حزيران الماضي).

الثاني، ينبغي أن تُحفظ «براءة الاختراع» فيه لرئيس الأركان السابق، دان حالوتس، الذي كان أول من توعّد بإعادة لبنان 20 عاماً إلى الوراء مطلع حرب تموز 2006، لينفتح بعده المزاد: 50 عاماً، 300 عاماً، «العصور الوسطى»، كما هدّد وزير التعليم الصهيوني، نفتالي بينيت، قبل أيام، غير ملتفتٍ، على ما يبدو، إلى أن زميله وزير الاتصالات، يسرائيل كاتس، كان قد رفع المزايدة إلى حدّها الأقصى: «العصر الحجري»، وذلك في ملصق «فايسبوكي» له يوم 5 تشرين الثاني 2014.

جرعة إضافية من التأمل ستُفضي إلى «اكتشاف» علاقة مباشرة شبه شرطية بين هذين العدّادين: كلما ارتفع مؤشر الأول (عدد الصواريخ)، تسلّق الثاني وراءه سريعاً، في حركة تبدو استلحاقية في الاتجاه والوتيرة.

مزيد من التأمل سينبِئُك بفارقٍ جوهري بين الاثنين: العدّاد الأول «خبري» يحدّث عن واقعٍ قائم وأمرٍ متحقق. هو يكشفُ عن قِيَمٍ ومعلومات موضوعيةٍ حصلت عليها الاستخبارات الإسرائيلية حول الترسانة الصاروخية التي تراكمها المقاومة في لبنان. أما الثاني فـ«إنشائي» يحدِّث عن المستقبل. هو تعبيرٌ عن موقفٍ تتخذه إسرائيل وتعلن عزمها على تحقيقه حال اندلاع المواجهة مع لبنان. الأول مُعطى. الثاني طيّ الإثبات. لكن ثمة مشترك: عدد صواريخ المقاومة يظهّر حجم الدمار الذي سيَلحق بالجبهة الداخلية الإسرائيلية إبان الحرب، وعدد السنين (دع عنك سخافة المبالغة في التعبير) يراد منه الإيحاء الردعي بحجم الدمار الذي ستُلحقه آلة الحرب الإسرائيلية بالداخل اللبناني في الحرب نفسها.

لو سأل سائل عن غاية تل أبيب ومؤسّستها الأمنية من وراء «تشغيل» العداد الأول على الملأ، في ظل ما ينطوي عليه ذلك من انعكاسات معنوية سلبية على واقعها الشعبي، فإن الأجوبة قد تتعدد. ولعلها ستراوح بين نزعة الثرثرة الإسرائيلية الأصيلة، والحاجة السياسية إلى شيطنة حزب الله أمام «المجتمع الدولي» والتحذير من تعاظم قوته. وقد لا تبعد إحدى الإجابات عن افتراض وجود سعيٍ إسرائيلي إلى إعداد الرأي العام الداخلي لأهوال الحرب القادمة من خلال الإشارة المتكررة إلى القدرات التدميرية للمقاومة اللبنانية. «ها نحن نقول لكم»، لسان حال القيادتين السياسية والأمنية في إسرائيل لجمهورهما، «كي لا يقولن أحد ــ بعد وقوع الواقعة ــ إننا لم نفعل».

أما تفسير «العداد الثاني» فلا يحتاج إلى جهد كبير، سيقول قائل. إسرائيل معنية، ببساطة، بأن ترفع منسوب ردعها في مقابل حزب الله إلى الحد الأقصى، وأن تبقي هذا الأمر حاضراً طوال الوقت. هذا صحيح، لكنه ليس حصريّ الصحة. فلا أحد يشكك في قدرات إسرائيل التدميرية حتى تحتاج الأخيرة إلى تأكيد هذا الأمر عند كل صيحة ديك. المسألة، على الأرجح، تعدو ذلك.

لنقترح إذاً تفسيراً آخر. وفي سبيل ذلك، لنُجرِ مسحاً في نتائج الأداء العسكري لإسرائيل خلال العقد الماضي، أو حتى العقدين الماضيَين.. هذه «الدولة» خاضت على مدى الأحَدَ عشر عاماً الماضية أربع حروب متباينة الوتيرة في كل من لبنان وغزة، وهي لم تخرج منتصرةً في أيٍّ منها، سواء بالمعنى السياسي لمفهوم الانتصار، أو بالمعنى العسكري. والحقيقة التي لا تقل أهمية، هي أن هذه الحروب الأربع أعقبت، زمنياً، انسحابين أحاديَي الجانب غيرَ مشروطين من كل من لبنان وغزة أيضاً، بعد أن فشل الاحتلال، تحت ضغط المقاومة، في تكريس أمنه، وتحوَّل إلى نزفٍ عبثيٍ.

دافيد بن غوريون، واضع العقيدة الأمنية الإسرائيلية، كان يرى أن من أهم وظائف الحرب بالنسبة لإسرائيل تكريس الردع في وعي أعدائها بما يضمن تحقيق الهدوء لأطول فترة ممكنة في أعقابها. لكن الواقع، بعد ستين عاماً من عقيدة بن غوريون، صار مغايراً، إذ أصبحنا نشهد كيف أن إسرائيل تبادر إلى شنّ حرب بوتيرةٍ تقترب من مرة كل ثلاث سنوات. وعندما «تضطر» إسرائيل إلى فعل ذلك، فهذا لا يعني فقط أنها تفشل في تحقيق أهداف الحرب السابقة، بل أيضاً، وربما الأهم، أنها لم تعد تخيف أعداءها، أو تنجح في ردعهم بالمستوى المطلوب.

يمكن القول، بقدر كبير من الثقة، إن واسطة العقد في تفسير «ظاهرة» العداد الثاني المشار إليه أعلاه تكمن بالضبط في هذه النقطة. فإسرائيل، كما جاء في تقرير فينوغراد بلسان قاطع، «لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة أو العيش فيها بسلام وهدوء من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، بأن جيشها قادر على الانتصار (في أيّ مواجهة)، وأنها تملك قدرات عسكرية ومناعة اجتماعية تسمحان لها بردع أعدائها، وأنها عند الحاجة، قادرة على إلحاق الهزيمة بهم». هذا يعني أنه عندما تصبح إسرائيل عاجزة عن دفع أعدائها إلى الاعتقاد بقدرتها على الانتصار عليهم، وتتحول هي نفسها إلى الإقرار بعجزها عن حماية جبهتها الداخلية من دمار بأحجام غير مسبوقة، بل حتى إلى التشكيك في قدرة مناعتها الاجتماعية على تحمّل أكلاف الحرب، عندما يحصل ذلك، يمكن المرء أن يفهم «متلازمة» الثرثرة الإسرائيلية القائمة. من الناحية السيكولوجية، يمكننا أن نفترض أننا أمام جهد انفعالي «تعويضي» تمارسه إسرائيل لإنكار «عقدة العجز» التي باتت تستبطنها، وهي تتوسل إلى ذلك، كما هو معروف في علم النفس، الإفراطَ في إظهار الثقة بالنفس حدَّ الغرور، أو كما يُعبّر بعاميتنا اللبنانية، حدَّ «التفشيخ».

ظهيرة الأول من آب 2006، اليوم الحادي والعشرين لعدوان تموز، ألقى رئيس الوزراء في حينه، إيهود أولمرت (للتذكير: الرجل يقضي منذ نحو عام حكماً بالسجن 27 شهراً) خطاباً أمام كلية الأمن القومي تحدث فيه عن «النجاح الكبير للجيش»، و»إنجازاته التي لا سابق لها»، والتي قادت نحو تغيير وجه الشرق الأوسط. أشار أولمرت في خطابه إلى أن إسرائيل ستوافق على وقف إطلاق النار عندما يكون الوضع في جنوب لبنان «مغايراً» لما كان عليه عشية الحرب (لم يوضح معنى ذلك)، وشدد على أنه لم يتعهد للجمهور في بداية الحرب بوقف سقوط الكاتيوشا. المعلقون الإسرائيليون آنذاك أجمعوا على أن خطاب أولمرت هو بمثابة جرعة تمهيدية أمام الرأي العام الإسرائيلي لخفض سقف التوقعات الذي كان قد رفعه بداية الحرب. أما عضو الكنيست، أرييه ألدار، من حزب الاتحاد القومي، فعلّق على الخطاب بالقول: «إن خطاب أولمرت دليل على أن العرب تعلموا منّا القتال، وأننا تعلمنا منهم الثرثرة».