IMLebanon

إنها إنتفاضة روسيّة

يقول سياسي مخضرم انّ اكبر خطأ يرتكبه السياسي حين يخضع تحليلاته وتقديراته الى أمنياته، فالفكر الرغبوي «Wishful Thinking» كما يقول الغربيون، هو موجِّه سيئ في السياسة كما الحقد، حسب قول لينين، فكيف اذا اجتمع التفكير الرغبوي والحقد في تقييم موقف ما.

هذه الملاحظة تنطبق اليوم على وصف تحليل كثيرين ممّن راهنوا على انّ الموقف الروسي من الازمة السورية سيتغير مع الوقت، وانّ موسكو ستتخلى عن الرئيس بشار الاسد مثلما تخلّت عن القذافي حين وافقت على قرار يسمح لحلف «الناتو» بالتدخل العسكري في ليبيا لحماية المدنيين. لكنّ تطورات الموقف الروسي منذ بداية الازمة السورية جاءت على غير ما يشتهي الذين حللوا الامور برغباتهم اكثر ممّا اعتمدوا على الوقائع والحسابات الدقيقة.

لقد قال الاسد أواخر 2011 لبعض زواره انه استمع الى «الفيتو» الروسي والصيني على مشروع قرار اميركي – غربي ضد سوريا مثلما استمع اليه كل مواطن آخر، وقال يومها: «نحن لم نطلب الفيتو من موسكو ولا من بكين، ولم تبلّغنا ايّ من العاصمتين نيّتها استخدام الفيتو الذي قلّما استخدمته في السنوات العشرين الماضية».

ويومها قدم الاسد تحليله وتقديره لثبات الموقف الروسي انطلاقاً من عوامل عدة بعضها متصِل بالاستراتيجية الروسية نفسها، وبعضها الآخر متصِل ايضاً بالرؤية المبكرة لموسكو لاحتمالات تمدد خطر الجماعات المتطرفة الى قلب الاتحاد الروسي نفسه، خصوصاً انّ كثيراً من المقاتلين المهاجرين الى سوريا كانوا من الشيشان والداغستان الذين جاءوا الى شمال سوريا لتدريبهم على قتال يمكن الاستفادة منه لدى عودتهم الى بلادهم حيث لهم مطامع معروفة يغذيها الغرب لإضعاف الاتحاد الروسي مثلما جرى قبلاً لإضعاف الاتحاد السوفياتي.

وعلى رغم انّ كثيرين كانوا يعتقدون بأن روسيا ثابتة في دعمها لسوريا وانّ الأخيرة من بين كل الدول العربية لم تتخلّ ابداً عن صداقتها مع روسيا حتى في عزّ ضعف موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فالسوريون كما الروس يدركون عمق الترابط بين مصالح البلدين وبين الحاجة المتبادلة بين العاصمتين في عالم بَدا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أنه أحاديّ القطبية ولا مكان فيه لدول مستقلة.

يقول السفير الروسي في بيروت الكسندر زاسبكين لأصدقائه انه فضّل ان يمضي معظم اجازته الاخيرة في بلاده بين المواطنين الروس العاديّين ليتعرّف الى حقيقة مشاعرهم ومواقفهم من سياسة الرئيس فلاديمير بوتين الخارجية، فاكتشف انّ غالبية هؤلاء متحمسون لسياسة رئيسهم، لا بل انّ شعبيته بين ناخبيه ازدادت هذه الايام عمّا كانت عليه في اوائل عهده، والجميع يذكر كيف كانت المعارضة الروسية تهيىء عشية الانتخابات الرئاسية أواخر 2011 لتجمّع ضخم امام الكرملين، فيما كان انصار بوتين يحضّرون لتجمّع صغير بالقرب منه ففوجىء المراقبون بأنّ التجمّع الموالي بات ضخماً وانّ التجمع المعارض بات صغيراً بسبب توجه معظم الروس لتأييد بوتين بعد الفيتو الذي استخدمه في مجلس الامن ضد مشروع القرار الغربي آنذاك ضد سوريا.

فالعامل المهم الذي يحدد اليوم سياسة بوتين كما يحدد سياسة كثير من الزعماء هو التأييد الشعبي له، وهو أمر ازداد بنحو ملحوظ حيث انتهج بوتين سياسة مستقلة عن املاءات واشنطن، وهو أمر يدغدغ الاحساس بالكرامة القومية للروس الذين افتقدوا طعمها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

طبعاً لقد قدّم المراقبون والمحللون تفسيرات عدة للموقف الروسي، منها ما يتصل بالاستراتيجيا او بممرات النفط او بالمياه الدافئة، ولكن القليلين منهم تنّبهوا الى عنصر متصل بقوة الكرامة القومية الروسية الذين أحسّوا منذ بداية التسعينات من القرن الماضي بمهانة وإذلال على يد دول الحلف الاطلسي على كل المستويات،

وهو الشعور نفسه الذي يحسّ به اليوم كثير من المواطنين السوريين الذين غادروا بلادهم طلباً لعيش كريم في دول شجّعتهم على الثورة ضد نظامهم، فإذا بهم يعجزون عن الحصول على تأشيرة سفر وتَسومهم تلك الدول كل انواع العذاب والامتهان والتشرد، فيصلون الى نتيجة بسيطة هي انه من الافضل ان يعودوا الى بلادهم على رغم كل اعتراضاتهم على النظام من ان يعيشوا بلا كرامة مشرّدين على حدود هذا البلد او ذاك، او مقتولين في مياه البحر الابيض المتوسط الذي يكاد يصبح أحمر لفرط ما استقبل من جثث اللاجئين السوريين والفلسطينيين والليبيين والمصريين الهاربين من جحيم الفوضى الدموية في بلادهم.

لكنّ السؤال يبقى: هل أقدمَ بوتين على خطوته غير المتوقعة للتدخل العسكري المباشر في سوريا بلا تفاهم مع الرئيس الاميركي باراك اوباما وبعض رؤساء الدول الاوروبية؟

ام انّ هذا التدخل سيضع روسيا في مواجهة مع الاطلسي تستكمل المواجهة التي جَرت في اوكرانيا وفي جورجيا بعدما غدر الحلف الاطلسي بوعوده لموسكو، خصوصاً بعدما وافقت روسيا على حل حلف وارسو على أمل ابتعاد الحلف الاطلسي عن حدودها، فإذا بهذا الحلف ينصب الصواريخ على حدود الاتحاد الروسي في خدعة مماثلة لتلك التي مارسها لانتزاع موافقة موسكو للحرب على ليبيا؟

بعض المراقبين يعتقدون انّ اوباما الذي يواجه معارضة شديدة في بلاده، وحتى داخل ادارته، يريد لموسكو ان تساعده في مواجهة خصوم الداخل الذين لم يفهموا بعد انّ اوباما يدرك محدودية القدرة الاميركية الاقتصادية والعسكرية على فرض املاءاتها على العالم كله، وان لا بد من تعاون مشترك مع دول بينها موسكو وطهران لمواجهة التحديات الكبرى في العالم.

وفي المقابل يعتقد محللون آخرون انّ الادارة الاميركية تريد استدراج روسيا الى المستنقع السوري – العراقي لإنهاكها على غرار ما جرى في افغانستان، وهو إنهاك قد يؤدي في نظرهم الى انهيار الاتحاد الروسي.

ولكنّ حسابات الروس هذه المرة اكثر دقة ممّا كانت عليه في افغانستان، وخطر الارهاب اليوم هو اكثر وضوحاً ممّا كان عليه في افغانستان، والنظام السوري هو بلا شك أرسخ جذوراً ممّا كان عليه النظام الشيوعي في كابول، وهذا ما أثبته صموده وقواته المسلحة ومناصريه خلال السنوات الاربع ونيّف التي مرّت على الازمة.

بعض المحللين يعتقدون انّ في يد موسكو ورقة قوية تشهرها في وجه كل الحكومات العربية والاقليمية والدولية المناهضة لنظام الاسد، وهي انها بتدخّلها تحول دون سقوط سوريا في فوضى شاملة، لا بل انّ موسكو ربما تقول لبعض هذه العواصم المتشنجة إزاء الاسد: هل تريدين ان تسقط سوريا ومعها لبنان والعراق في يد طهران؟ ام انّ من مصلحتكِ ان يكون هناك توازن داخل سوريا والعراق ولبنان؟

سواء أصاب هذا التحليل او ذاك، فإنّ من الواضح ان موسكو بخطوتها الجديدة نحو سوريا قد اعادت رسم خريطة جيوسياسية تشمل المنطقة بأسرها، وان ما فعلته كان اكثر من تدخل، كان انتفاضة في وجه كل من يحاول محاصرتها وعَزلها ومنعها من التقدم لكي تصبح قطباً جديداً ومعها الصين في عالم متعدد الاقطاب.