IMLebanon

الإعلاميّون عندما لا يُؤخَذون على محمل الجد

ما هي مسؤولية التلفزيون والصحافة ومراكز الأبحاث ومجالس النواب في انحطاط النقاش العام وبالتالي انحطاط مستوى سياسات السلطة السياسية؟

العدد الأخير من مجلة “ذي ناشيونال إنترست” الأميركية

(TNI) عدد أيلول – تشرين الأول، مخصّص بكامله لمقالات خبراء وشخصيات أميركية ذات تجارب في السياسة الخارجية تحت عنوان شامل: “ما هو غرض أميركا؟”. لن أتحدّث اليوم عن معظم تلك المقالات، رغم أهميتها، وإنما عن مقالة افتتاحية تقويمية تتميّز بأنها تربط بين ما تعتبره مستوى أداء المؤسسات الأميركية المتدهور في السياسة الخارجية وتحوّلِ السياسات الخارجية إلى “ملصقات ترويج” وبين تدهور النقاش العام الأميركي حول السياسة الخارجية وخصوصا في سجالات المؤسسات الإعلامية والتلفزيون والكونغرس.

لهذا السبب الأخير، أي مسؤولية الإعلام ومراكز الأبحاث، وهي مؤسسات غير حكومية، ومسؤولية الكونغرس أي مسؤولية الأداء النيابي في تدهور دور الحكومة، سأنقل بعض المقاطع من المقالة علّها تكون مفيدة لنا في كيف ينظر بعض النخبة الأميركية إلى ضعف النقاش العام كمصدر للتراجع  في السياسات العامة.

يعنينا إذن من زاوية محددة: ترابط تدهور مستوى التحاجج وحريته مع فشل صناعة القرار نفسه. ويعنينا بصورة أخص، كصحافيين، نقدها للإعلام. ولذلك هي تصلح لدرسها ومناقشتها لا في كليات العلوم السياسية بل أيضا في وسائل ومجالس تحرير الصحف.

المقالة كتبها رئيس المجلس الاستشاري للمجلة ومساعد أسبق لوزير الخارجية الأميركي ريتشارد برت والناشر والرئيس التنفيذي للمجلة نفسها ديميتري ك. سيمز. أختار منها أربع فقرات:

الإعلام المنحاز لوجهة نظر فئوية:

“المشكلة الأساسية هي أن اختيار شهود (أو بالأحرى خبراء تلفزيونيين) مستعدّين للتعبير عن آرائهم وتقديم تحاليل موضوعية، يزداد صعوبة. لدى شبكة “فوكس نيوز” خبراؤها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى MSNBC، لكن الالتقاء بين خبراء الجهتَين أمرٌ مستحيل. كنّا لنتوقّع أن تؤدّي الزيادة الهائلة في أعداد مراكز الأبحاث والدراسات حول السياسات الخارجية، والمجموعات الناشطة، والمنظمات غير الحكومية، إلى توليد آراء غنيّة ومتنوّعة، لكنها دفعت بدلاً من ذلك بالتفكير الجماعي والمنافسة إلى الانحياز، أو الظهور في موقع المنحاز نحو هذا المحور السياسي أو ذاك…”.

“على رأس كل ذلك… فإن التغطية الإعلامية للشؤون الدولية تراجعت بشكل كبير في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. شبكات التلفزيون الأميركيّة والصحافة المكتوبة لديها مكاتب ومراسلون يتناقص عددهم أكثر فأكثر. ضف على ذلك أن البرامج الإخبارية تعتمد بشكل كثيف على مسؤولين حكوميين وعسكريين سابقين لا يعلنون مواقف اعتراضية كما تعتمد أيضا على مراسليها أنفسهم…” .

مراكز الأبحاث وطموحات البيروقراطيين للوظيفة:

“فضلاً عن ذلك، تتصرف مراكز الدراسات والأبحاث أكثر فأكثر وكأنها بمثابة باب دوّار يدخل منه الرجال والنساء الطامحون الذين غادروا الحكومة للتو أو يسعون للانضمام إليها. في حين أن التجربة العملية في السياسات مهمة للغاية، يفكّر عدد كبير من هؤلاء الباحثين المزعومين في الجلسات العتيدة لتثبيت تعيينهم في مناصبهم الحكومية في المستقبل، على الأقل بقدر ما يفكّرون في الوقائع التي يُفترَض بهم تقويمها. ويدركون أيضاً، شاؤوا أم أبوا، أنهم إذا فشلوا في تبنّي الآراء السائدة وتردادها، لن يؤخذوا على محمل الجد وسوف يُنظَر إليهم بأنهم أصوات شاذة وغير موثوقة تنادي في البرية…”.

الكونغرس وتسجيل المواقف حول مسائل هامشية:

“يتجاهل أعضاء الكونغرس، في شكل عام، المسائل الأكثر جوهرية، مثل السبب الذي دفع بالولايات المتحدة إلى إطاحة طاغية بغيض مثل معمر القذافي لم يكن يشكّل تهديداً فعلياً لها، من دون أن تفكّر حتى بما يمكن أن يحدث بعد إسقاطه. ويبدو أن الكونغرس لم يعد يعقد جلسات استماع جدّية حول المسائل الكبرى المتعلقة بالعلاقات الأميركية مع روسيا، البلد الوحيد الذي يملك إمكانات عسكرية قادرة على تدمير الولايات المتحدة، أو إدارة صعود الصين كقوة عظمى إقليمية، والذي ربما يشكّل التحدّي الأساسي الذي تواجهه الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. وفي حال عقد جلسات استماع، تتحول عادةً جلسات لتسجيل المواقف الحزبية حول مسائل هامشية…”.

ماذا يمكن الاستناج من هذه الملاحظات في بلد كلبنان أو حتى بعض البلدان العربية كمصر العراق وتونس؟

المعضلة المطروحة في الغرب والتي تمثِّل الفقراتُ السابقةُ عيّناتٍ منها وعليها هي أنه في بلد ديموقراطي لا يمكن أو لا يجوز التضييق على الصراع السياسي لكن ما هو مطلوب دائما وجود فسحة في النقاش العام تتيح تقييم القضايا الخلافية بالاستقلال عن الصراع السياسي الفئوي أو دون أن يهيمن عليه الصراع السياسي بمعناه الضيِّق.

في لبنان وبعض الدول العربية دعونا نصِف أنفسنا بأننا بلدان ذات فسحة ديموقراطية ولكنْ لسنا دولاً ديموقراطية. هل النقاش العام لمؤسساتنا حول الخيارات الوطنية قادرٌ على إنتاج بيئة اختيارات موضوعية؟

المشكلة في بلد كلبنان أعقد: ليس النقاش فئويا فحسب وبالتالي ما يحصل على المنابر العامة هو مشادات لا نقاشات بل أيضاً “صانع القرار” نفسه ليس صانع قرار في المسائل الوطنية.

أنقل هذه العينات كأي “مقلِّد” للغرب. هذا التقليد أو هاجس المحاكاة الذي بات يطبع الكرة الأرضية بكاملها.

ما كنت ترددت في إدخال النقاشات المطلبية والخدماتية اللبنانيّة ضمن هذا التوصيف السلبي كلياً لولا النموذج الواعد الذي قدّمه الحراك المدني مؤخرا وفرض نفسه بصورة ما في بعض المجالات مثل فضيحة النفايات.

ملاحظة بديهية هي أن انتقادات كبيرَيْ مسؤولي هذه المجلة بحكم اختصاصها هي طبعاً حول أداء المؤسسات الأميركية في السياسة الخارجية ولا تشمل الداخلية.

أما الملاحظة الأخيرة: إذا كان بعض النخبة الأميركية ينظر إلى الأداء العام بهذه الطريقة فأين نحن “البؤساء” من ذلك؟