IMLebanon

القاع: العيش على بعد ستة كيلومترات من «داعش»

صار «العم الياس» أشهر من نار على علم في القاع وبعض الجوار. يستشعر ابن الثمانين عاماً ونيفاً خطر وجود تنظيم «داعش» في أعالي جرود بلدته في سلسلة جبال لبنان الشرقية. لا يفوته يوم دون أن يسأل عن الأحوال وتطورات المواجهات هناك.

قبل 25 يوماً، وبينما كانت المعارك مستعرة على خلفية هجوم «الدواعش» من «حقاب الكاف» إلى قرنة السمرمر وخربتي الدمينة وبعيون في جرود رأس بعلبك والقاع، وصل «العم الياس» إلى نقطة تجمع عدد كبير من شباب بلدته. لحظات قليلة ثم اختفى. ظن «الشباب» أن الرجل المسن ذهب ليأوي إلى فراشه. عشر دقائق ووصل رجل بـ «القنباز»، الزي العربي الذي يشتهر بعض كبار «القاعيين» بارتدائه مع «الشاشية والعقال». الأهم، أن «العم الياس» أخرج «الألمانية»، البارودة التي ما زال ينظفها ويقوم بـ «تزييتها» دورياً، منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، وجاء للدفاع عن القاع مثله مثل الآخرين «إن لزم الأمر»، مزيناً صدره بزنارين متقاطعين من الخرطوش النحاسي الذي يذكّر بالزمن الغابر.

يومها، تظاهر الشباب بفك الاستنفار أمام «العم الياس» لتشجيعه على العودة إلى منزله. لكنه للحق قال لهم «إذا قررتم مساندة الجيش في الجرد فقد لا أتمكن من الوصول إلى هناك، لكن اتركوا الضيعة علي».

تسري روحية «العم الياس» بين معظم أبناء القاع القاطنين فيها أو أولئك الذين اضطروا للنزوح عنها طلباً للعلم وفرص العمل في بيروت والضواحي. فالقاع، بلدتهم، «خط أحمر» ولا يمكن أن يسمحوا بالمساس بها، وفق رئيس بلدية القاع السابق عيد مطر. هنا الكل مستعد للدفاع عن البلدة إذا لزم الأمر «وراء الجيش اللبناني، وبالتنسيق مع شباب المقاومة»، ويضيف عيد أن التكفيريين في الجرود لا يبعدون أكثر من ستة كيلومترات عن آخر بيت في الضيعة.

لا يلحظ العابر في القاع أي مظاهر مسلحة علنية: «الشباب الذين تطوعوا للحراسة والسهر على أمن البلدة اشتروا سلاحهم فرديا، وكذلك لباسهم الموحد»، وفق مختار القاع وهو المسؤول المحلي لـ «التيار الوطني الحر» منصور سعد.

تمر نهارات القاع، المكشوفة أمام جردها في السلسلة الشرقية، عادية. يقصد فلاحوها حقولهم ومزارعهم، الموظف يتقيد بدوام مكتبه، والطبيب بعيادته والمتقاعد على مصطبة داره. لكن عيون الجميع ساهرة، بمن فيهم القاطنون على أطراف البلدة. استنفار بحدود «العين الساهرة» من خلف الجيش اللبناني و «حزب الله» بالنسبة للقوى التي تدور في فلك «8 آذار». في المقابل، يعتبر مسؤول «القوات اللبنانية» في البلدة بشير مطر أن كل جرد القاع، «لا يتجاوز الثلاثين كيلومتراً مربعاً، وهم يتحدثون عن سيطرة المسلحين على هذه المساحة تقريباً». ويرى أن «أهل القاع مرتاحون، وما يحكى عن وجود مجموعات في البلدة مبالغ فيه، بالنسبة للأعداد أو التسلح».

هذا هو موقف «القوات» الرسمي لكن الواقع يشي بأن بعض شباب «القوات» ممن يسكنون في البلدة ينضوون في مجموعات الحراسة «عندما يلزم الأمر وإلى جانب باقي القوى السياسية»، حسب أحد وجهاء البلدة.

يرد مطر (القوات) موقفه إلى أن «الجيش موجود ويحمينا، وإذا تم خرق خطوطه على الحدود ووصل المسلحون إلى بلدتنا، يمكننا تدبر أمورنا». وبرغم تقليله من خطر التكفيريين، يؤكد مطر أن شباب القوات سيدافعون عن بلدتهم في حال خرق الحدود والخطوط الأمامية للجيش «وسنكون شركاء مع كل المدافعين عن منطقتنا وبلدنا».

الوقوف وراء الجيش اللبناني هو ما يؤكده منفذ عام «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في البقاع الشمالي الياس التوم الذي يؤكد احتلال المسلحين جزءاً من جرود القاع، مشيرا الى عدم وجود مظاهر مسلحة في القاع، وإن «كان هناك جهوزية تامة بين نحو 400 شاب من البلدة ممن لم تتخط أعمارهم الخمسين عاماً».

وبالإضافة إلى الجيش اللبناني، يؤكد التوم تنسيق «الشباب مع حزب الله على مستوى المنطقة وليس القاع فقط»، مشيراً إلى أن كل شباب القاع، بمن فيهم «قوات ومقيمون في بيروت أبدوا استعدادهم للقدوم في حال الحاجة إليهم مع أبناء بلدتهم».

ويروي المختار سعد كيف تفاعل أهالي القاع والجوار مع الخطر التكفيري خلال تحرك المسلحين في جرود رأس بعلبك والقاع أثناء انشغال الجيش في معارك عرسال.

يومها، وفق التوم، استنفر نحو 400 شاب من القاع مدعومين بعدد كبير من شباب الهرمل وانتشروا خلف مواقع الجيش اللبناني، وكانوا جاهزين للتدخل إذا لزم الأمر وطلب منهم الجيش ذلك. هنا، وفق التوم وسعد، يتصرف الجميع «وفق مصلحة المنطقة وهي واحدة». ويقول أحد المتطوعين إن القاع هي «خط الدفاع الأول عن الهرمل، وبهذه الروحية يتعامل معنا أهالي الهرمل أيضاً، وبالتالي، نحن في خندق واحد كأبناء منطقة واحدة».

ويشير مختار القاع إلى وجود مجموعات في البلدة مكلفة بالحراسة والاستنفار في حال الطوارئ وراء الجيش. لكل مجموعة مسؤول. هناك مجموعة، على سبيل المثال لا الحصر، وفق سعد، لإخلاء نحو عشرين بيتاً على أطراف البلدة وقريبة من الجرود، إلى داخل البلدة. كما أن شباب القاع القاطنين في بيروت و «من مختلف الاتجاهات السياسية جاهزون للتوجه الى القاع مع أول هاتف يبلغهم بأي طارئ»، ويشير إلى أن مهمة شباب البلدة لا تتخطى «مهام المراقبة والمساندة والحراسة، بينما يشكل الجيش اللبناني وشباب المقاومة خط الدفاع الأول».

ليس تأثر القاع بالأحداث السورية جديداً أو مرتبطاً فقط باحتلال «داعش» وسيطرته بالنيران على جزء كبير من جرودها (بين 15 و20 كيلومترا مربعا). يتحدث أهالي البلدة عن كتلة من النازحين تتجاوز الثلاثين ألف نسمة في «مشاريع القاع»، ومع نهاية العام 2012 وبداية العام 2013، عرفت منطقة مشاريع القاع «عزّها» ارتباطاً بعرسال المفتوحة عليها بطريق خاص عبر الجرود. يومها كثر الحديث عن تسلل مسلحين وتهريب سلاح من الجهتين على جانبي الحدود، حتى أن البعض تحدث عن دور لخلايا ناشطة في «المشاريع» في السيارات المفخخة.

ويتخوف بعض أبناء القاع أيضاً من احتمال استمرار وجود خلايا نائمة في منطقة مشاريعها حتى اليوم، في ظل طبيعة المناطق التي قدم منها النازحون البالغ عددهم نحو 33 الف نازح سوري في «المشاريع» وحدها، وهو نزوح معارض بغالبيته وكان من الطبيعة نفسها للنزوح إلى عرسال قبل فصل المنطقتين جغرافياً بفعل إحكام الجيش سيطرته على المعابر الجردية التي كانت تصلهما بعضهما ببعض.

اقتصاد متردٍ في القاع

للخطر التكفيري وجه آخر يتمثل بضرب إنتاجية البلدة الاقتصادية. فبعد تأثر «مشاريع القاع» التي كانت تورد بالأطنان مختلف أنواع الفواكه والخضار عبر الحدود، تعرض موسم الصيد في القاع لتراجع كبير أو بالأحرى لم يتحـرك هذا العام. يقول المختار منصور سعد إن نحو ألفي صياد كانوا يقصدون القاع في مواسم الصيد على مدار السنة وهؤلاء كانوا يدفعون إيجارات منازل وغرف في البلدة كما بدل متطلباتهم من وجبات وخرطوش صيد وغيره.

وتأتي مداخيل القاع من الصيد في المرتبة الثالثة بعد الوظائف (نحو 1500 موظف مواظب أو متقاعد في السلك العسكري) وبعد الزراعة (نحو 170 مشروعاً زراعياً لا يقل عدد أشجار أي مشروع منها عن 500 كعب مثمر).