IMLebanon

كارلوف الذي يتابع مُبتسماً

عندما وصَل نبأ اغتيال السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف إلى مسامع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في القصر الرئاسي، من المحتمل أنّه كان يضع اللمسات الأخيرة على ترتيبات حدثين هامين بالنسبة لتركيا في اليوم التالي. الأول داخليّ بطابع إقليمي هو تدشين «نفق أوراسيا» للسيارات الذي سيصل شطرَي مدينة اسطنبول عبر قاع مضيق البوسفور الاستراتيجي، في حين أنّ الحدث الثاني خارجي بطابع دولي ويتعلّق بالاستراتيجية التي ستعتمدها تركيا خلال الاجتماع الثلاثي التركي الروسي الإيراني، الذي احتضَنته موسكو لمناقشة آخِر التطوّرات في الملف السوري أمس الأول، بالإضافة إلى عملية الانتقال إلى مرحلة الحلّ السياسية للأزمة هناك.

أردوغان لم يتراجع عن التمسّك بالمشاركة في الحدث الأول وإعطاء تعليماته لوزير خارجيته شاووش اوغلو بتفعيل دوره في محادثات موسكو الثلاثية.

لكن اهمّ ما فعَله في تلك اللحظات كان إصدار أوامره بتشغيل خط اتصال مباشر بين انقرة واسطنبول، وأجرى اتصالاً سريعاً بنظيره الروسي فلادمير بوتين الذي كان ينتظره على الجانب الآخر بصبر، وعلى عكس ما فعَله العام المنصرم، عندما تجنّب محادثة الأتراك بعد استهداف المقاتلة الروسية ومقتل قائدها.

الرئيس اردوغان اعلن بعد محادثة هاتفية مطوّلة مع نظيره الروسي أنّ لجنةَ تحقيق مشتركة ستتعامل مع ملفّ الاغتيال، لكنّه قال ايضاً إنّ الاعتداء هو «عملية استفزازية تستهدف العلاقات التركية الروسية الجيّدة حيال سوريا»، وهي كانت القَناعة الروسية نفسها التي سمعناها طيلة ليلة الحادثة.

هتافات قاتل السفير كارلوف، وهو يقف امام الجثة المطروحة ارضاً مُلطّخة بالدماء ومزاعمُه أنّ ما يفعله هو من أجل حلب وانتقاماً لأهلها لم يكن لها أثرُها الكبير، ولم تكن مقنعةً للأتراك وغيرهم.

أنقرة ليست في وارد تصفيةِ الحسابات مع الروس، سيّما وأنّها كانت تجهد للتنسيق والتعاون مع موسكو منذ أسابيع لإنجاح خطة شرق حلب، والخروج بقرارات مؤثّرة في اجتماع روسيا الثلاثي. قاتلٌ تلطّى وراء عبارة «لن تَحصلوا على الأمان وأنتم تظلمون الآخرين»، يُطلقها بكلّ برودة أعصاب وهدوء كامل تَعكس حقيقة التباعد بين تنفيذ الهجوم وأهدافه.

مشكلة السفير كارلوف الذي يعمل في تركيا منذ عام 2013 أنّه كان دبلوماسياً متواضعاً يختلط بالجميع، لا يهتمّ بالحمايات الشخصية والمواكبة الأمنية، والدليل أنّه اصطحب معه الى حفل تدشين معرض الرسوم والصور المقام في أنقرة، المستشار الإعلامي للسفارة ومترجمها فقط، وسط كلّ هذا الضجيج الإقليمي والدولي والهجمات الإرهابية التي تعصف بالمنطقة والداخل التركي منذ اسبوع.

مشكلة الأتراك بعد اغتيال كارلوف أنّه كان واحداً من 3 أشخاص لعبوا دوراً أساسياً بعيداً عن اللاعين في مسألة المصالحة بين البلدين، وإعادة الأمور الى سابق عهدها، وكان عليهم توفير الحماية اللازمة وهو خارج مبنى السفارة، كونه المنسّق الأول بين روسيا وقيادات المعارضة السورية المتواجدة في اسطنبول.

الدبلوماسية التركية والروسية نجَحتا في امتصاص واستيعاب الارتدادات الأولى لعملية اغتيال السفير كارلوف، والمواقف كانت متطابقة في البلدين وأجمعتا على أنّ هذا العمل الإجرامي لن يؤثّر سلباً على العلاقات.

لكن هناك تفاصيل أمنية كثيرة تنتظر الإجابة عنها، وعلامات استفهام لا بدّ من تبديدها حول تحديد هوية الفاعل وأهدافه في ارتكاب هذه الجريمة، ومسألة قتلِ الجاني على الفور بدلا ًمن العمل على اعتقاله حيّاً بعد محاصرته من قبَل رجال الأمن في المكان، ثمّ الكشف عن كلّ الخبايا المتعلقة بالجريمة وخلفيّاتها.

ضربة جديدة لمسار العلاقات التركية الروسية، كما تقول معظم القراءات والتحليلات في تركيا. الأولى كانت بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية قبل عام ومقتل قائدها، حيث تجنّبت العاصمتان التوتير أكثر ممّا هو عليه.

بوتين قال يومها إنّ «روسيا لم تفكّر مطلقاً في الذهاب إلى الحرب مع تركيا، لكنّ الأمر لم يقتصر على طائرتنا التي أسقِطت، بل قتِلَ طيّارنا أيضاً»، اليوم يعضّ الرئيس الروسي مرّةً أخرى على الإصبع، ويقول: قتلُ السفير الروسي استهداف للعلاقات التركية الروسية.

هو ربّما يتابع عن قرب حجمَ الحملات الإرهابية التي تُنفّذ ضد تركيا من الداخل والخارج، ويعرف انّ اليد التركية الممدودة نحو روسيا صادقة في اتّجاه إعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين.

قناعة تتركّز أكثر فأكثر بين الاتراك، وهي أبعد من الرهان على موقف أميركي أوروبي داعم لأنقرة في أية أزمة تركيّة روسيّة، بل هناك قلق تركي حقيقي حيال سيناريوهات تناقش في المحافل الغربية أنّ المواجهة العسكرية التركية الروسية ضرورة لا بدّ منها لإضعاف البلدين، وإخراجهما من لعبة التوازنات الإقليمية والدولية.

لومُ الروس على سياستهم السورية وانتقاد مواقفِهم السياسية شيء، والتطاول على سمعة قوةٍ عالمية واستهداف سفيرها من خلال عملٍ إجرامي إرهابي من هذا النوع واغتيال دبلوماسي رفيع مهمّتُه هي تقريب العلاقات وتمتينُها بين البلدين شيء آخر. تحقيق شفّاف سريع ودقيق في الكشف عن كافّة ملابسات الجريمة وحدَه الكفيل بقطع الطريق على محاولات داخلية وخارجية تريد الاصطياد في الماء العكر.

ودّعت تركيا جثمان السفير كارلوف في احتفال سياسي ودبلوماسي وعسكري رفيع، وقرّرت إطلاقَ اسمِه على الشارع الذي وقَعت فيه الجريمة، لكن لا بدّ مِن الذهاب أبعد من ذلك.

تمثيل رفيع في مراسم التشييع لن يكفي أيضاً، كارلوف الدبلوماسي الكتوم الذي كان أحدَ أضلعِ المثلّث المشارك في ملف المصالحة التركية الروسية، وإعادة العلاقات بين البلدين الى سابق عهدها يستحقّ مثلاً أن يُخلّد اسمُه في مشروع إنمائي تركي- روسي مشترك عملاق. خط نقلِ الغاز الاستراتيجي أو محطة الطاقة النووية المزمع تشييدُها في مرسين مثلاً.