IMLebanon

غيبوبةٌ لبنانية ومَخاضٌ عالمي

يَعترف السياسيون اللبنانيون كافةً بأن أزمةَ لبنان ـ بفعل انحيازِهم ـ مرتبطةٌ بأزَماتِ المِنطقة، ويتصرفون بالمقابل وكأنَ لبنانَ جزيرةٌ منعزِلة عن الشرق الأوسط والعالم ومصيره يتقرر في هذه القريةِ أو ذاك القضاء.

أكثريةُ السفراءِ المعتمَدين في لبنان يلاحظون ـ منذ زمنٍ ـ تدنّي الرؤيةِ السياسية لدى المسؤولين، إذ قلّما يطرَحون في اللقاءات الديبلوماسية مصيرَ لبنان وقضاياه الاستراتيجية. مَن منهم يفكّر بماهيّةِ انعكاسِ قرارتِه ومواقفه على مصيرِ الأجيال الطالعة؟

أيُّ مسؤولٍ لبناني دعا إلى مجلِسه مفكّراً أو شاعراً أو مؤرخاً أو باحثاً للتَنَوّرِ برأيه وبتجربته؟ كل السياسيين يعرفون ما يريدون لأنفسِهم ولورثتِهم، لكن لا يعرفون ماذا يريدون للبنان؟ مَن منهم يملِك رؤيةً مستقبليةً للبنانَ وسَطَ التحولاتِ الاستراتيجية؟

مَن منهم يلاحظ أن لبنانَ يعيش مرحلةَ ما قبلَ حربِ سنةِ 2006 معطوفةً على مرحلةِ ما قبلَ سنةَ 2005. وأن سوريا تمّر بمرحلةِ ما قبلَ توحيدِ أقاليمها سنةَ 1936. وإيران تخشى تهديداتِ مرحلةِ ما قبلَ الاتفاقِ النووي سنةَ 2015.

وأوروبا تَهاب أن تعودَ إلى مرحلةِ ما قبلَ اتحادِ دولِها في معاهدةِ «ماسترخت» سنةَ 1992. والولاياتِ المتحدةَ تنقسِم حيالَ رئيسِها الجديد كأنها في مرحلةِ ما قبلَ وِحدةِ الشمالِ والجَنوب سنةَ 1865. وروسيا تتصرف دولياً كأنها في مرحلةِ ما قبلَ سقوطِ الاتحاد السوفياتي سنةَ 1991؟ إنه مَخاضٌ عسير.

منذ الحربِ العالمية الثانية لم يَبلغ العالمُ حدودَ الخطرِ العسكري مثلَ اليوم. ومنذ معاهدتَيْ فرساي (1919) ويالطا (1945) لم يعرف العالمُ تهديداً لكِياناتِه مثلَ اليوم. ومنذ صدورِ شِرعةِ حقوقِ الإنسان (1948) لم يَشهد العالمُ انقلاباً على القيمِ الروحية والانسانيةِ مثلَ اليوم. ومنذ عصورٍ لم يَتَعمَّم الإرهابُ حالةً عالمية مثلَ اليوم. ومنذ أكثرَ من قرنٍ لم يَحكُم العالمَ قادةٌ دون مستوى الزعامةِ مثلَ اليوم.

نَزحَ النبوغُ من السياسةِ إلى العلوم. الشعوبُ قَلِقةٌ، تمشي وتَنظر وراءَها، والحكامُ عاجزون يدورون حولَ أنفسِهم. الدولُ الكبيرةُ تقوم مقامَ الأممِ المتحدة، وهذه تلعب دورَ الصليبِ الأحمر. أليس لافتاً اختيارُ المفوضِ السامي لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيرس، أميناً عاماً لمنظمة الأمم المتحدة؟ مَن في لبنانَ لاحظ ذلك؟

منذ سقوطِ الاتحاد السوفياتي، والعالمُ يتلمَّس نظاماً جديداً ولا يَجدُه. الثوراتُ العربية فشِلت. الوِحدةُ الأوروبية توسعت عشوائياً فترنحت. اللجوءُ إلى الأديان تحوّل تطرفاً وتعصّباً.

تقريرُ المصير خلق كياناتٍ ضعيفة. مشروعُ نَشرِ الديمقراطيةِ عمَّم الفوضى. الاتحاداتُ الإقليمية في آسيا وأميركا اللاتينية تعثرت وتفككت. وخلافاً لما نظن، ليستُ الشيوعية وحدَها ما سقط بل الرأسماليةُ أيضاً.

وإذا أُعلنَ سقوطُ الشيوعيةِ الدولية ونُشِرَ في الجريدةِ الرسمية، فالغربُ يُرجئ نَعيَ الرأسماليةِ العالمية رغم كل الأزماتِ المالية والاقتصادية التي يتخبّط فيها. مَن في لبنانَ لاحظ ذلك؟

وفي الوقتِ الضائعِ حاولت الولاياتُ المتحدة قيادةَ العالم فارتكبت حروباً خاطئةً ضدّ الأطرافِ الخطأ وتواطأت مع الاعداءِ الحقيقيين ضدّ أصدقائها التقليديين.

انتقل العالمُ من الحربِ الباردة بين السوفيات والأميركيين إلى الحروب بين الدولِ الكبرى وقوى إقليميةٍ فاستفاقت جميعُ أنواعِ الشرِ النائمِ في النفسِ البشرية.

في تلك الفترةِ خاضت الولايات المتحدة الأميركية ثلاثَ حروبٍ: الكويت سنةَ 1991، أفغانستان سنةَ 2001 والعراق سنةَ 2003 ما أدّى إلى انهيارِ دولتين من ثلاث (أفغانستان والعراق) وتحريرِ الثالثة (الكويت) وإلى ارتداداتٍ ضد أميركا وحلفائها الإقليميين.

في حين خاضت روسيا ثلاثَ حروب: جيورجيا سنةَ 2008، بلاد القرم سنةَ 2014 وسوريا سنةَ 2015، وانتصرت فيها فعززت، خلافاً لأميركا، وضعَ حلفائها الإقليميين.

وها روسيا اليوم تتصدّر الساحتين الدولية والشرقِ أوسطية فيما تنهمِك الولاياتُ المتحدة بساحتها الداخلية وتبدو كأنها لبنانُ بين حشدِ ساحةِ الشهداء واعتصامِ ساحةِ رياض الصلح. مَن في لبنانَ لاحظ ذلك؟

اختلفت نوعيةُ النزاعاتِ الحديثة وكذلك طريقةُ حلِّها. غابت الحلولُ الطويلةُ المدى لأن غالِبيةَ النزاعات ليست بين دولٍ تحتكم إلى القوانين الدولية ومنطقِ الانتصار والهزيمة، بل بين دولٍ وجماعات أو بين جماعاتٍ ومنظمات خارجةٍ على كل القوانين والأعراف والحدود.

ترفض الشعوبُ اليومَ النظامَ الإحاديَّ (الأميركي) والثنائيَّ (الأميركي / الروسي) والثلاثيَّ (أميركا / بريطانيا / فرنسا) والخماسيَّ (مجلس الأمن الدولي)، وتبحث عن الاستقرار من خلال توازناتٍ أخرى.

تبدو روسيا الوحيدةَ التي وجدت نهجَها، فيما يتخبّط العالمُ الحر بكيفيةِ وراثةِ الاتحاد السوفياتي في أوروبا وآسيا ويَنشَط بإزعاجِ روسيا في محيطِها الجيوسياسي.

تخلّص العالمُ الحر من الشيوعية ليقعَ في الإرهاب الآتي من دولٍ ومجتمعات مختلفة، فارتبك. لا يكفي أن نفرحَ بسقوطِ الشيوعية الدولية، الأهمُ إيجادُ بديلٍ يعيدُ توازنَ العالم الذي غالباً ما كان ثنائياً عبرَ التاريخِ القديم والحديث. مَن في لبنانَ لاحظ ذلك؟

أثناءَ الحربِ الباردة بين واشنطن وموسكو انقسمت الدولُ بين هذين المعسكرين. اليوم تسعى الشعوبُ إلى الخروج من هذا الانقسامِ لتُنشِئَ تجمعاتٍ إقليميةً ومحليةً.

انتقل العالمُ من عصرِ الإيديولوجيّتين الشيوعيِة والرأسمالية إلى عصرِ الحقِّ بتقريرِ المصير استناداً إلى معاييرَ تاريخيةٍ تتضمّن إيحابياتٍ كالحرية، وسلبياتٍ كالتطرف. الأنظمةُ العالمية السابقةُ أفرزتْها معاهداتٌ وُقّعَت مباشرةً بعد حربي 1918 و1945.

أما مسارُ النظامِ العالمي العتيد فإنه خارجَ سياقِ حربٍ فهزيمةٍ فانتصارٍ فمعاهدة؛ سيكون ثمرةَ تحولاتٍ استراتيجية واقتصادية وحضارية وإتنية ودينية.

هذه المرةَ يحاول العالم أن يصنعَ نفسَه بنفسِه ولذلك مسارُه طويلٌ وصعب، وسنرى مُسودّاتٍ مختلفةً قبل أن تخرجَ نُسختَه النهائية. ولأن الشعوبَ تلعبُ دورَها، برزت القومياتُ والفدراليات والحكمُ الذاتي، إلخ. مَن في لبنانَ لاحظ ذلك؟ هذا هو الفراغُ الحقيقي.