IMLebanon

رئيس الجمهورية اللبنانية… سريره من حديد مُدعّم بأحجار باطون!

أميرٌ متحدّر من الأسرة الشهابية، قائد ومؤسس الجيش اللبناني، رئيس للجمهورية اللبنانية ومؤسس لنهجٍ سياسي، لكنه عاش حياة الزهد والبساطة والتواضع، رحل من هذه الدنيا تاركاً إرثاً من مسيرة وطنية أخلاقية إنسانية إيمانية. إنه اللواء الرئيس فؤاد شهاب. منزله المتواضع بحجمه وديكوره، الكبير بما يحمله من شواهد على مواقف وقرارات من كرامة وعدلٍ وحق، أصبح متحفاً مفتوحَ الأبواب للأجيال كي تتعرّف إلى رجل الدولة النزيه الذي كان المواطن غايته لا وسيلته.

منزل فؤاد شهاب المتواضع الذي عاش ومات فيه في غادير، جونية، تحوّل إلى متحف ومكتبة، بعد أن اشترته الرهبنة اللبنانية المارونية من خلال المدرسة المركزية-جونيه وجهّزته وحسّنته لهذه الغاية. ويفتح منزل الرئيس فؤاد شهاب أبوابه للبنانيين والمهتمين في بداية تشرين الأول المقبل.

باني المؤسسات

وُلد الرئيس فؤاد شهاب في 19 آذار 1902 في غزير، كسروان، تولّى قيادة الجيش عام 1945، وترأس الحكومة الانتقالية التي أشرفت على الانتخابات الرئاسية عام 1952، كما استلم وزارة الدفاع عام 1956. وانتخب رئيساً للجمهورية في 31 تموز 1958.

حقّق الرئيس فؤاد شهاب الذي رحل عن الحياة في 25 نيسان عام 1973، إنجازات كثيرة خلال عهده الرئاسي (1958-1964) الذي سُمّي بـ«عهد المؤسسات والإصلاح والإنماء».

فصدرت خلال العهد الشهابي عشرات القوانين والمراسيم الاشتراعية التي تشكل أسسَ الدولة الحديثة كإنشاء مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، الضمان الاجتماعي، مجلس الإسكان، كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، ديوان المحاسبة، نظام مجلس القضاء، المعهد العالي للموسيقى-الكونسرفتوار وغيرها من المؤسسات.

كان يؤمن بأنّ الأزمات والمشاكل التي يغرق فيها لبنان باستمرار سببها الوضع الاجتماعي الاقتصادي لا الطائفي. وكان يهدف إلى تقليص الفوارق الإنمائية والاجتماعية بين الطوائف والطبقات والمناطق.

وقد كلّف العالم الاقتصادي والإنمائي الأب لويس لوبريه، منشئ مؤسسة «إيرفد» التي تقوم بإعداد دراسات واقتراحات للتنمية الاجتماعية، بالقيام بمسح شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، بين عامَي 1959 و1961.

وأتت النتائج لتؤكّد رؤية الرئيس شهاب للوضع اللبناني. وقد أدّت عمليةُ المسح إلى وضع برنامج إنمائي، جاهد الرئيس لتنفيذه، ولتحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى لبنان بأكمله.

زيارة إلى المتحف

عاش ومات رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وزوجته الفرنسية روز- رينيه، في منزله في جونيه، وكانت حياته بسيطة متقشفة إلّا بالكرامة. أصبح هذا المنزل المقابل للمدرسة المركزية-جونيه، متحفاً تراثياً تاريخياً ثقافياً، وقد وضعته وزارة الثقافة اللبنانية كمتحف تراثي على لائحة الجرد للأبنية التاريخية، عام 2013.

يضمّ المتحف مقتنيات الرئيس شهاب وأغراضه وأدواته الشخصية، بالإضافة إلى صوره وكتبه والمراسلات والمراسيم. وتمّ وضعها في مكانها كما كانت، فتشعر أنك تدخل إلى منزل حيّ، لم تمت روحه ولم تخرج من المنزل.

يستقبلك تمثالٌ حجري للرئيس على مدخل المنزل في الحديقة، حيث كلّ شيء ما زال كما هو، بركة المياه والمقاعد حيث كان يجلس الرئيس وزوجته. إلى جانب البيت غرفة العسكر، وفي الطابق السفلي غرفة أخرى للعسكر، الخدم والحرس، لها منفذ خاص إلى المطبخ الكائن في الطابق العلوي.

الشرفة ما زالت كما هي، الشرفة التي شهدت على أحداث كثيرة، حيث كان يسير الرئيس ويدخّن السجائر حين يكون غاضباً أو في حال تفكير، خصوصاً وقتَ محاولة الانقلاب عليه التي قام بها القوميون عام 1961. ويُقال إنه كان يخاف على العسكر أكثر ممّا يخاف على نفسه.

تدخل إلى مكتبه وترى تمثالاً آخر له، يجلس مكانه على كرسيه يحمل قلماً، وتجد على المكتب آخر ورقة كتبها بيده، نظاراته، «البايب»، بطاقات خاصة، «دخان وطني». وعلى الجدران مٌعلّقة البركات الرسولية البابوية المُرسلة إليه.

وفي مكتبه مكتبة تحوي مجلدات الكتب التي قرأها إلى جانب «بار» من فرنسا، «علبة الرسائل»، وكان يقرأ جميع الرسائل يومياً. كما يضمّ مكتبه أغراضاً شخصية، حقيبته، الأوسمة، الأوشحة، صوره ورقم سيارته (رقم 1).

المسيحي المؤمن

في غرفةٍ أخرى تجد صوره، ستيريو قديماً، كلّ ما كتب عنه، علبة سيجار، ما كتب عنه في الجرائد يوم وفاته، رتبه العسكرية، المراسيم، الدفتر الذي كتبت فيه الشخصيات التي حضرت افتتاح المتحف في تموز الفائت، تعابير الإعجاب بالرئيس الراحل، والدفتر هو من دفاتر الرئيس الخاصة.

غرفة نومه بسيطة، تضمّ رغم صغر حجمها صور للسيدة مريم العذراء (نحو 6 أو 7 صور) لم يُعَد وضعها كلّها، ربطات عنق (ألوان غامقة)، البدلة العسكرية، البدلة الرسمية، أغراض شخصية، عدة حلاقة، أيقونات، صور ومسابح دينية والكتاب المُقدّس.

كان مؤمناً ويصلّي كثيراً. وكان يتردّد إلى المدرسة المركزية كثيراً ويُشارك بالقداديس، رافضاً الجلوس على «fauteuil» في المقدّمة. وكان يثق برئيس المدرسة المركزية حينها الأب يعقوب السقيم، فكان يُشاركه همومه وأسراره ويأخذ برأيه.

ويروي الوزير الراحل فؤاد بطرس في مذكراته «لاحظت منذ اجتماعي الأول مع الرئيس فؤاد شهاب في مكتبه في القصر الجمهوري إيمانه المسيحي القوي والبارز الذي كان ربما في أساس نزاهته التي يشهد له بها الجميع. فعلى طاولة مكتبه النظيف لم تكن هناك إلّا ثلاثة أشياء: صورة للسيدة العذراء ونظاراته وقلمه».

غرفة صغيرة تطلّ على الجهة الخلفية للمنزل كانت بمثابة قاعة اجتماعات الرئيس شهاب، حيث وقّع كلّ المراسيم. والشمعدان الذي أحرق فيه استقالته عام 1960 بعد مطالبات وإلحاح سياسي وشعبي، ما زال شاهداً في المنزل.

غرفة أخرى تحوّلت إلى مكتبة للطلاب والباحثين، حيث توجد خطبه، مقصوصات من الجرائد وكتب وأرشيف عن فؤاد شهاب.

ويروي أحد المسؤولين عن المتحف، أنه حين توفي وجدوا سريره مثبّتاً بأحجار باطون.

كلّ هذه المقتنيات جمعتها المدرسة المركزية من ولدَي شقيقه الأميرين عبدالله وطالب فريد شهاب، ومن وزارة الدفاع و»مؤسسة فؤاد شهاب» و«مؤسسة المحفوظات الوطنية» ومن العديد من الصحف ودور النشر. وعمل مكتب «فونيكس» للدراسات في جامعة الروح القدس-الكسليك على ارشفة المستندات والمطبوعات وتوثيقها.

دين للرئيس

عام 2010 بدأت ترد معلومات صحافية عن تحويل منزل الرئيس فؤاد شهاب إلى مطعم فقامت بلدية جونيه باستملاكه إلّا أنها لم تستطع دفع قيمة الاستملاك، فطلبت من وزارة الثقافة استملاكه، ففعلت ذلك، لكنّ المنزل بقي مهجوراً ولم تُعد الوزارة ترميمه.

عام 2013 طلب رئيس المدرسة المركزية وديع السقيم من وزير الثقافة أن تهتم المدرسة بالمنزل وتقوم بإدارته، فطرح الوزير على الأب سقيّم شراءه كرهبنة مارونية، إذ إنّ الوزارة لم تكن قد دفعت قيمة الاستملاك لمالكه.

وهذا ما حصل، وتمّ إصدار مرسوم إلغاء الاستملاك، وأصبح المنزل ملكاً للمدرسة المركزية. وأعلن الأب سقيّم أنّ كلفة شرائه تخطّت المليوني دولار، ووصلت الكلفة النهائية للمنزل بعد ترميمه وتجهيزه إلى نحو 3 ملايين دولار.

وقال في حديثٍ لـ«الجمهورية» إنّ «الرئيس شهاب كان له الفضل الكبير في شراء الرهبنة اللبنانية المارونية المدرسة المركزية عام 1966 من الأخوة المريميين».

وأشار إلى «أننا اشترينا المنزل كي لا يتحوّل إلى مطعم، وفاءً للرئيس فؤاد شهاب»، لافتاً إلى «أننا أخذنا المبلغ كقروض من المصارف سنقوم بإيفائها خلال 10 سنوات».

يتطلّب المتحف عملاً ومتابعة، حراساً، صيانة، اهتماماً بالحديقة، عمال نظافة، مرشداً سياحياً، وغيرها، وستقوم المدرسة المركزية بكلّ هذه المهام، وذلك حسب سقيّم لأنّ «دور المتحف مهمّ ومكمّل لدور المدرسة، وهو دور التربية، فواجبنا أن نعلّم الطلاب ونعرّفهم الى أشخاص مهمّين مرّوا بتاريخ لبنان، فالرئيس فؤاد شهاب هو باني المؤسسات ورجل الدولة، الإنسان الذي عاش بزهد ونسك شبيه بعيشة الرهبان، كان زاهداً بهذه الدنيا لا يملك شيئاً».

لذلك، سيفتح المتحف أبوابه مع بداية العام الدراسي في الأول من تشرين الأول المقبل، من الإثنين إلى الجمعة، من الثامنة صباحاً حتى الثانية ظهراً، والدخول مجاني.

لا يملك ليرة لبنانية!

مات الرئيس فؤاد شهاب، الذي لم يُرزق وزوجته بأولاد، لا يملك «ليرة لبنانية»، ورغم الانتقادات السياسية التي طالت عهده أو عهدَي الرئيسين شارل حلو والياس سركيس، اللذين كانا من ضمن «النهج الشهابي» أو ما عُرف بالشهابية، بسبب أعمال «المكتب الثاني» (المخابرات اللبنانية)، وتدخّله بالشأن السياسي. إلّا أنّ الجميع ترحّم على «أيام» المكتب الثاني، وكلّ مَن عرفه يجمع على نزاهته وأخلاقه ونظافة كفّه، كما على عدم خضوعه أو تبعيته لأيّ جهة خارجية.

وحين كان الرئيس جمال عبد الناصر الزعيم العربي الأقوى ورئيساً للجمهورية العربية المتحدة التي تضمّ مصر وسوريا حينها، طلب الرئيس شهاب أن يُعقد الاجتماعُ المُقرّر بينهما على الحدود. وحصل الاجتماع التاريخي بين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر في خيمة صغيرة من صفيح بطول 15 متراً، يوم الأربعاء 25 آذار 1959، ونصب نصفها في الأراضي اللبنانية ونصفها الآخر في الأراضي السورية.

وذلك كي لا يثير قدوم جمال عبد الناصر إلى لبنان أو ذهاب فؤاد شهاب إلى القاهرة أيّ حساسية عند الطرفين اللبنانيين المتخاصمين، وكانت ما تزال طاغية على  الأوضاع السياسية الأمنية في البلاد آثار ثورة 1958.

عُرف الرئيس فؤاد شهاب بالتزامه تطبيق «الكتاب» أي الدستور، ورفض تجديد ولايته الرئاسية رغم توقيع 97 نائباً على مشروع قانون لتعديل الدستور لهذه الغاية. ولكنّ الرئيس شهاب رفض توقيع قانون تعديل الدستور وردّه الى المجلس.

وأثبت تمسّكه بالشرعية الدستورية منذ تسلّمه قيادة الجيش عام 1945. وعند استقالة الرئيس بشارة الخوري عام 1952 وتعيينه رئيسا للحكومة الموقتة، قال عبارته المشهورة لرئيس المجلس النيابي حول الانتخابات الرئاسية: نفعل ما يقوله «الكتاب» أي الدستور، ندعو النواب الى انتخاب رئيس جديد. وهل مَن يذكر «الكتاب» من نواب وسياسيّي اليوم؟