IMLebanon

مارين لوبان في لحظتها اللبنانية.. و«التفصيل السوري»

هرج ومرج شغلا الساحة اللبنانية على هامش زيارة زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية ومرشحة أقصى اليمين الرئاسية مارين لوبان للبنان ولقائها بالرؤساء والمرجعيات. كأنّ اللبنانيين كانوا بحاجة إلى هكذا حدث، ما هو حدث بما للكلمة من معنى، لينقذهم من رتابة المعاد المكرر من مواقف متعلّقة بالقانون الإنتخابي وسواه من المسائل الدائرة حول نفسها.

أيّاً يكن من أمر لوبان وحزبها، إلا أنّها مرشّحة رئاسية أساسية في السباق الآتي إلى قصر الإليزيه. فيسار المؤسسة الحاكمة الفرنسية يعتريه الوهن والتفسخ والشحوب، ويمين هذه المؤسسة الحاكمة لم يعرف بعد كيف التصرّف حيال الفضيحة التي طاولت فرنسوا فيون، والأخير على عناده يرفض أن يتزحزح. ولوبان تستفيد من مناخ عالمي تعصف به نوبات الإسلاموفوبيا، وكره الأجانب، وتزدهر فيه عوائد «شتم» الرأسمالية المتوحشة دون بدائل جدية، وهو ما تفعله لوبان بكثرة. بالتوازي، نجحت لوبان في تطوير حزب والدها بإتجاه أكثر مقبولية لدى أوساط أوسع من الناخبين، كما طردت والدها من الحزب الذي أسسه تأديباً له على إنكاره المحرقة، ولا تزال تحاول أن تظهر حزبها بمظهر اليمين البديل لليمين الديغولي وليس حزباً يمينياً متطرّفاً يتحايل على الديموقراطية من أجل إفسادها أو تقويضها.

ورغم تمايزها عن والدها في أسلوب إدارة المعركة داخلياً، إلا أنّها تشترك معه في نزوة حب الديكتاتوريات في العالم الثالث. جان ماري لوبان كان متحمساً لصدام حسين، وابنته متحمسة لأن تقول أنّها تفضّل بشّار الأسد على «داعش»، رغم أنّ موقفها هذا لم يدفعها إلى الآن لزيارة دمشق كما زارت بيروت. التصوّر المشترك عن لوبان الأب وإبنته هو أنّ ديكتاتوريات العالم الثالث هي حاجز منيع دون تدفّق المزيد من المهاجرين إلى الغرب، وإلى بلدهما على وجه الخصوص، كما أنّ التصادم بين هذه الديكتاتوريات وبين الأميركيين، يدغدغ النزعة المعادية لأميركا في معترك اليمين المتطرف الأوروبي بعامة. الطريف هنا، أن يحتج على زيارة لوبان «يسار» يلتقي معها إما في خندق «كوبونات صدام حسين»، وإما في خندق بشار الأسد.

بيد أنّ آل لوبان، وثالثتهم حالياً الشابة الصاعدة ماريون ماريشال لوبان، أصغر أعضاء البرلمان الفرنسي في تاريخه (من مواليد 1989)، يشكلون ظاهرة، ظاهرة بالوراثة السياسية، وتكوين حالة تراكمية متصاعدة عبر السنين، وهي بالتالي ظاهرة لا تقرأ فقط من زاوية موقفها من ديكتاتوريي العالم الثالث، أو من زاوية استعادة الكلام النمطي حول أنّهم «عنصريون» وينبغي عزلهم.

عزلهم؟ كل تاريخ فرنسا السياسية منذ الثمانينيات هو تاريخ الفشل في تحويل سياسة عزل اليمين المتطرف إلى عملية تفسخ وتراجع له. عندما انتهجت فرنسا قانونا انتخابيا على أساس نسبي عام 1986 وأمن ذلك دخول الجبهة الوطنية الى البرلمان، كان رد المؤسسة الحاكمة بالعودة الى قانون الدائرة الفردية الأكثرية بدورتين، بحيث يتضامن يسار ويمين المؤسسة الحاكمة عبر البلاد للحيلولة دون نفاذ مرشّح من الجبهة الوطنية. هذا في حين كان لوبان الأب يحصد نسبة من التصويت في الرئاسيات وصلت الى حد بلوغه الدور الثاني منها عام 2002، وبعد خمس عشرة سنة من تاريخه، ها ان ابنته مرشّحة ان لم يكن للوصول الى الرئاسة، فعلى أقل تقدير لنيل أكبر عدد من الأصوات في الدور الأول، وبمسافة كبيرة عن أقرب منافس لها، هذا مع كون حظوظ وصولها جدية للغاية. أكثر من ذلك: الشيطنة الغبية لليمين المتطرف اليوم سوف تجعل الرئاسة لقمة سائغة له. العزل، بالمطلق، ليس مجدياً لأي قوة تمتلك قاعدة إجتماعية حقيقية، إن هي حاولت أن تواجه هذا العزل لا بالإنفعال، وإنّما بالصبر والحيلة والمراكمة، وهذا ما فعلته «الجبهة».

أن تسمع لوبان في لبنان موقفاً مختلفاً للغاية حول الوضع السوري، فهذا بحد ذاته أمر حسن ومفيد. فكما ترامب كما لوبان، ثمة ميل عند هذه الشخصيات لتبرير حالة بشار الأسد، ليس فقط ضد داعش كما يقولون، لكن قبل ذلك ضد أوباما وهولاند، باعتبارهما رؤساء ضعفاء بالنسبة لترامب ولوبان، ساهما في إضعاف «الشعور القومي» للأمتين! بشار الأسد هو شخصية متخيلة للغاية عند ترامب ولوبان ولا وجود لها في الواقع، وأبعد ما تكون عن بشار الأسد الموجود فعلاً في الواقع. هي «فزاعة» يستخدمونها في السجال الداخلي، وإلا لكنّا رأينا لوبان عند الأسد قبل أن تكون في لبنان، وليس ما يظهر أن ترامب في الوقت الحالي على أهبة الانفتاح على الأسد على ما أوحى به ابان حملته الرئاسية. مهم أن يؤكد اللبنانيون للوبان أو لسواها أنّ لهم تجربة طويلة ومريرة مع هذا النظام السوري، ويعرفونه أكثر من سواه، وأنّه لا يمكن التفكير جدياً بمحاربة الإرهاب من دون تفكيك هذا النظام. لا ينفع عندما تقول لوبان «بشار الأسد أفضل من داعش» أن ينساق الرد الى قلب هذه المعادلة. ليكن، لنسلّم جدلاً، يا رفيقة لوبان، لكن ثمة تفصيل «تقني» أساسي: لأجل التمكن من محاربة «داعش» بشكل جدي لا مناص من تفكيك نظام آل الأسد الذي يمنع موضوعياً المحاربة المجدية لهذا التنظيم.