IMLebanon

محمد البعلبكي يرحل والصحافة مهددة بالرحيل


لبنان يودع غدا الراحل الأخير من رعيل الكبار. لا فقط في الصحافة وكان من أعمدتها ونقيبا لها على مدى ثلث قرن بل أيضا في الثقافة والوطنية والسياسة. في السادسة والتسعين رحل محمد البعلبكي. وهو يرد على كل من يسميه شيخ الشباب بأنه شاب الشيوخ. أزهري وعلماني. موسوعة في الفقه الديني من خلال دراسته في الأزهر. وموسوعة في علوم الدنيا من خلال دراسته في الجامعة الأميركية وتدريسه الأدب والتاريخ فيها. والأهم هو ما تعلمه في مدرسة الحياة.

كان المفتي الشهيد حسن خالد يناديه: يا شيخ. والبطريرك الراحل هزيم يفاخر بما تعلمه منه في الجامعة الأميركية. والرفاق في الحزب السوري القومي الاجتماعي يرون فيه تلميذ الزعيم انطون سعادة. واللبنانيون اختبروا في سنوات المحنة والحرب صلابته الوطنية وتجسيده للعيش المشترك والوحدة الوطنية في حياته الخاصة كما في الحياة العامة. والعرب شهدوه في المؤتمرات والحوارات وعلى المنابر يربط مفهوم العروبة بالحضارة والانسانية.

محمد البعلبكي تعلم باللحم الحيّ قول فريدريك نيتشه: ان تولد هو ان تقاسي، ان تعيش هو ان تجد بعض المعنى في المعاناة. فهو قضى سنوات طويلة في السجن محافظا على العقيدة كرجل مؤمن. وليس قليلا بعض المعنى الذي تعلمه من المعاناة في السجن: هدوء الأعصاب والحكمة. القدرة على امتصاص الصدمات والتقريب بين المواقف وابتداع التسويات. توسيع الآفاق بالأفكار حين تضيق الدنيا بالايديولوجيات. الانفتاح على كل جديد في الثقافة والفكر السياسي. واستمرار الرهان على تجاوز الطائفية في لبنان، حتى بعدما ضربت لبنان والمنطقة موجات التعصب الطائفي والمذهبي.

كان هاجس النقيب البعلبكي في السنوات الأخيرة هو التفرغ لكتابة مذكراته بعد التخلي عن مهامه في نقابة الصحافة. وهو عاش ليشهد كل المراحل التي مرّ بها لبنان الكبير الأعمر منه بسنة واحدة. من الانتداب الفرنسي الى الاستقلال والثورة البيضاء على العهد الاستقلالي الأول. ومن أحداث ١٩٥٨ الدامية ومحاولة الانقلاب على العهد الشهابي الى الوجود الفلسطيني المسلح والدخول العسكري السوري والاجتياح الاسرائيلي، وصولا الى ما سمّي الاستقلال الثاني. لكنه في كل هذه المراحل بقي الرجل الصلب في المبادئ والمرن في التسويات.

وما يزيد في الحزن على محمد البعلبكي وخسارة فقدانه، ان الصحافة مهدّدة بالرحيل بعد قرن من التألق والتميّز وصنع مجد لبنان والانسان فيه. والبديل ليس اعلاما أرقى وأعمق في التحليل وأشمل في تغطية الأحداث بل فوضى وضيق أفق وسجالات هابطة وروايات كاذبة.

الرحمة لمحمد البعلبكي الذي كان أحد الذين ينطبق عليهم قول ميلتون فريدمان: رجل واحد وحقيقة يشكلان أكثرية.