IMLebanon

ناهض حتر المسيحي قتله خياره وحبّه للاسلام الحق

تاق ناهض حتر في مقال كتبه لأن يرحل شهيدًا، فذاق مرارتها في زمن عبثيّ قاتم وقانط، يبتلع من ناجتهم الحرية بالكلمة، فجعلوها أيقونة وعنوانًا للنضال والمواجهة حتّى الموت لإيمانهم بأنّه حياة. ترى، هل كان ناهض يعلم في قراءته لذاته وللواقع المحيط به أنّه سيأتي يوم ويتحرّر من رباط الجسد وقيوده، ويكتب بالدم المهراق أمام قصر العدل في عمّان مقالًا تشرق من حروفه الحياة الجديدة بفجر جديد يبزغ قريبًا فيتحقّق توقه؟ فريدًا سطع ووحيدًا سقط، ومع سقوطه يستجمع المشرق العربيّ المكلوم والمعلّق على خشبة الظلم قواه ليحتشد بعناصره المأزومة خلف جثمانه المضرّج بالدماء، ويصرخ متأوّهًا وموجوعًا، فالكلمة من الكلم والكلم في اللغة العربيّة تعني الجرح، ناهض جرح منذ أن اختار السياق المشرقيّ عقيدة تمسّك بها في المواجهة، والمشرق العربيّ في اللحظات العاصفة اتخده مع نخبة مخلصة له ومتحسسة لآلامه وجهًا مضيئًا يهلّ في ليله فينهل الناس من كلماته، ما يعينهم على اكتشاف الغد، وينفعهم في تظهير الرؤى واستشراف الأحداث بخلفياتها ووقائعها.

ليس رياض إسماعيل وحده من قتل ناهض بسبب مشاعر رافضة لرسم كاريكاتوريّ كان للشهيد أن ينشره على صفحته، ماسًّا به وبحسب الزعم الإسلامويّ الذات الإلهيّة. إنّه الأداة المستعملة لتنفيذ هذه العمليّة الحاقدة، وما كان له أن ينفذّها في وضح النهار وأمام قصر العدل لو لم تتمّ له التغطيّة الماديّة، وقد أظهرت الصور كما الفيديو هشاشة التعامل مع ناهض حتر فور إصابته وسقوطه مضرّجًا بدمائه على الأرض. وبحسب معلومات صادقة ظهرت عند من تمحوروا حول الرجل بعشرة طويلة وطيبة، بأنه غالبًا ما كان يحترم الإسلام ويودّه، وهو المسيحيّ الأرثوذكسيّ الطالع من بيئة تماهت مع مفهوم الحوار، ومن أرض تباركت بحضور المسيح أو جاورت حضوره على ضفاف نهر الأردن. لقد انتهج اليساريّة مسلكًا وعقيدة، واتخذ الأسلوب الجدليّ والحركيّ منطلقًا للنقاش وتوضيح الأفكار، لم يقارب الرجل المحطات العلمانويّة بتشدّد فاقع، ولم يؤمن بالمسار الماركسيّ-الشيوعيّ كحالة عقيديّة راسخة، ليطال الإسلام من خلالها أو يتحرّر من مسيحيّته ومشرقيّته، بل كانت عنده معطى فلسفيًّا راق له أن يدركه لبرهة من الزمن في مقارعة الرأسمالية المتوحّشة دون أن يخلع عنه المنطلقات الليبرالية كسلوك عيش ونهج اجتماعيّ متحرّر من صنمية القيود. لقد فهم الرجل في تجواله الطويل بين عمان ودمشق وبيروت بأنّ الفكر المشرقيّ مطلّ من آفاق المسيحيّة ومتحرّك من كون المسيحيّة اعتبرت السيد المسيح مشرق المشارق، ومن فهم هذا الأمر كان له أن يتخصّص في الإسلام عميقًا وطويلاً ويدرس الحركات الأصوليّة من مصادرها، وله الحقّ في أن يتّجه نحو النقد وتحرير الإسلام من ربقها وسطوتها بالفكر والنضال، فالمسيحية المشرقيّة تتلاقى مع إسلام يجادل ويحبّ ويعترف بالآخر، وليس مع إسلام نابذ للآخر ورافض لحضوره وتكوينه التاريخيّ لدنيا العرب. لقد ميّز ناهض غير مرّة بين الإسلام الراقي المحبّ وإسلام حروفيّ يأبى الانفتاح و»يهنأ» بانغلاقه في ثقافة الحروف المغلقة والنافرة. بهاء المشرق عند ناهض ساطع وناهض بالتكوين المسيحيّ- الإسلاميّ له، أي بالتعدديّة غير النظريّة، بل الفعليّة الشركويّة والميثاقيّة المتجانسة في الله الواحد كما فهمها ناهض وكتب غير مرّة عنها بأسلوبه المشوّق والجاذب. وكأنه يقول بأنّ الله لا يتمزّق وحاشا أن يتمزّق، وحده الفكر التكفيريّ يمزّق الله بعد استحضاره إلى وحولهم وجعله على صورتهم ومثالهم، وتصويرهم له بأنّه قائد جيش أو يقتلون باسمه كل من يعتبر في مفهومهم مارقًا وكافرًا، في حين أنّ الأنظومة الإلهيّة الحرّة بل المنطلقة من حريّة الله في خلقه تقول انّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.

لم يقتل ناهض بسبب هذا الفكر المكنون فيه، بل قتل لأنّ ثمّة من استهلك هذا الفكر إطارًا لتكفير الرجل بداءة، ولصبّ تكفيره في خانة سياسيّة معاكسة للخانة التي رآها منطلقًا للمواجهة مع من ساهموا في نشوء الحركات التكفيريّة واستعملوها لتدمير سوريا والعراق والأردن ولبنان. قتل ناهض لأنه وجد هذا المدى المطلّ من سوريا إلى الأردن ولبنان والعراق واحة حوار ونقاش بين المسيحيّة والإسلام، كثيرون ظنّوا به، وافتكروا بأنه كاره الإسلام، وفي معظم كتاباته رأى الرجل الإسلام حالة راقية وحضاريّة، ولأنه منطلق من هذا الفهم رفض أبلسته وشيطنته وتسييسه نحو محطات قد تقضي عليه كواحة سلام، «الإسلام لله يعني السلام فيه والسلام منه على العالمين». ولذلك تأثر كثيرًا بعليّ ابن أبي طالب أمير المؤمنين، وذاق فكر الإمام موسى الصدر وأعجب به حتى الثمالة كرمز حواريّ وكم اشاد غير مرّة بفكر المطران جورج خضر واعتبره أحد الأعمدة النورانيّة المعبّرة عن حقيقتنا وجوهرنا، ورأى في الرجلين وجهين مثاليين لحوار يجب أن يستديم ضمن الحضارة الواحدة.

لماذا اختار ناهض حتّر جبهة الممانعة ممثلّة بنظام الرئيس بشار الأسد وروسيا فلاديمير بوتين وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله؟

ولد خياره من هذا الحوض الفكريّ والكبير، وبعد قراءة يسيرة ومعمّقة أدنته من هذا الخيار وجعلته يدمن عليه ويناضل في سبيله ضمن قراءة استراتيجيّة ومعمّقة ومتوازنة، سلكت سلوكًا توصيفيًّا وتقريريًّا بعد الغوص في التوصيف، ليرى أنّ برّ الشام كلّه انطلاقًا من الحرب في سوريا وعليها مهدّد بالسقوط، والتهديد يجيء من خلفيّة يهودانيّة (أي يهوديّة متشددة) تماهت مع الأتراك وعرب الخليج، وعملت الولايات الأميركية لها غير مرّة، لتنفيذ عملية السقوط باستهداف سوريا كقلب لهذا المدى الجغرافيّ والتاريخيّ. لقد رفض ناهض سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا مثلما في الوقت عينه رفض استهداف العرش الهاشميّ في الأردن، على الرغم من التباين الكبير والجوهريّ بين النظامين والتباين بين ناهض والعرش بالمعاني السياسيّة، لقد توجّع ناهض بسبب سوء الفهم القائم في عقليّة الملك عبد الله الهاشميّ بينه وبين الحقيقة التاريخيّة في علاقة آل سعود وآل هاشم، تطويع الأردن في الأحداث السوريّة بحسب قراءة ناهض كمثل استهدافه، إذ لا يمكن استحضار لعنة التاريخ في العلاقات بين سوريا والأردن وجعلها وسيلة للتموضع مع المملكة العربيّة السعوديّة وكأنّ العرش الهاشميّ قد صار جزءًا من طموح المملكة في السعوديّة باستعمال الأردن كما تستعمل اليمن والبحرين وتحارب في سوريا وتقاتل سياسيًّا في لبنان. وقد اعتقد غير مرّة بأنّه إذا ما سقط الرئيس بشار الأسد، وقد آمن غير مرّة ببقائه وصموده، فإنّ الهدف اللاحق سيكون إسقاط العرش الهاشميّ في عمّان. وكم حذّر ناهض الحكومة الأردنيّة من الانحياز إلى جانب المعارضة في سوريا وطالبها بإلغاء غرفة العمليات المشتركة على الحدود قرب درعا، فقد ينقلب السحر على الساحر، والأردن محشوّ من القوى الأصولية التكفيريّة بدءًا من الإخوان المسلمين وصولاً إلى التكفيريين وكلّ هذه القوى تائقة في الأصل لسقوط مملكة آل هاشم ليصير الأردن ساحة لشريعتها وحكمها.

قتل ناهض حتر بسبب قراءته العميقة، وقتل لأنه آمن بالمقاومة المشعّة وعلى رأسها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وقد كان معجبًا به وبحضوره، قتل ناهض لأنّه كان رؤيويًّا ومحدثًا ومحبًّا للعلاقة المسيحية-الإسلاميّة وللسلام فيها.

أهل القلم موجوعون على غيابه، المختلفون معه قبل المتفقين معه توجعوا لسفك دمائه أمام قصر لعدل مفقود. لقد كان ناهض ناهضًا بكل ما للكلمة من معنى، وبدا يتمرّده علامة فارقة في القول والكتابة، بل كان ثورة للحق والمعرفة والحداثة في جوف الكلمة وعالم الكتابة.

مع غيابه المفجع والموجع والذي لا يحجب إيماننا بأنّه قد غدا في القيامة، وهو المؤمن بها والمدرك بأنها ثورة الكون كلّه كما قال مرّة لصديق مشترك، وبسبب انشداده إلى تلك الثورة لا بدّ من استذكار بعض من تأبين غسان تويني لميشال أبو جودة في ذكرى أربعينه وقد قال: «كان الورق جسد ميشال والحبر دمه والخطوط شرايينه»، ناهض كان جسدًا من ورق شرايينه خطوط لدم ضخّ في قلبها وعليها وقد صار حبرًا أزليًّا سال خلّد وجهه أي فكره في مصحف الشهادة بل مصحف الحياة.