IMLebanon

نصير الأسعد.. «الغصّة» الرابعة

كُثر هم الذين يتنصلون من حياتهم أو يستقيلون منها إمّا إستسلاماً أو طمعا بالراحة. كُثر هم الذين ينحنون للعواصف ويتهرّبون من واجباتهم المهنية والاجتماعية ويُحيلون أنفسهم للتقاعد باكراً هرباً من مسؤولياتهم بمجرد شعورهم بخطر الموت يتهددهم أو لحظة مروره بجانبهم، لكن وحده «البيك» نصير الأسعد كان من طينة لا تنتمي إلى هؤلاء ولا إلى فكرهم، بل ظل يواجه الباطل بالحقائق، والموت بمزيد من التمسك بالحياة والإصرار على مواصلة درب الجلجلة، إلى أن خانه قلبه الذي لم يكن ينبض سوى حُبّ ووفاء للناس والأصدقاء، والذي لم يكن يحلم إلا بالحرية.

أمس حلّت الذكرى الرابعة على رحيل رجل لم تحكمه عقدة «البكوات» ولا المدراء أو المسؤولين ولا كل المناصب، رجل من طينة هذا الوطن الذي عاش معه أوجاعه وإنتصاراته. حمل القضية من منبر إلى آخر ومن صحيفة إلى أخرى، لكن ظل هاجسه المستقبل وظلّت الشجاعة رفيقته الدائمة، فكان صاحب الفكر النزيه والسياسي الواضح والمحلل المقنع. بعد سنوات أربع عجاف، ما زال «البيك» حاضراً في عيون الفقراء الذين كان يسأل عنهم بإستمرار ويتابع أحوالهم. كان يسأل عنهم في الجنوب وبيروت والشمال، المنطقة التي كان لها مكان مُميّز بفكره وقلبه، ولذلك كان حذّر في مقالاته الأخيرة من أمر مجهول يُعده النظام السوري ضد هذا الجزء من لبنان.

في مثل هذا الشهر وتحديداً منذ أربع سنوات، أشيع خبر دخول نصير الأسعد في مرحلة حرجة أثناء تواجده في المستشفى. يومها اشتعلت مواقع التواصل حبّاً ووفاء لرجل ترك في مكان ما بصمة حب ووطنية. الجميع صلّى له ليخرج مُعافى من أزمته الصحية، لكنها كانت المرّة الأولى والأخيرة التي يُهزم فيها «البيك» بعدما أدى قسطه إلى العلى، ولينعيه بعدها الرئيس سعد الحريري واصفاً إياه بـ»صاحب العقل الراجح والقلم الذي لا يجرح والفكر النابض بمحبة لبنان«، وليؤكد «أننا خسرنا أخاً عزيزاً وصديقاً وفياً ورفيق درب، وهب حياته للدفاع عن قيم العدالة والحرية والحق«. وكتب محبو «البيك» على مواقعهم «ناطرينك، تحلل، تكتب، وتحكي… لا تنسى أنك أكثر من قاوم، والآن مطلوب منك أن تعود لتقاوم مجدداً… كلنا ناطرينك لكي نحمل سوية راية لبنان بالعالي«.

لا يمكن تلخيص حياة نصير الأسعد بكلمة ولا بجملة، وهو الذي جّدد الحياة السياسية لمجموعة كبيرة من المناضلين والمقاومين بعدما كادوا أن ييأسوا من البلد وحاله. زرع فيهم روح التحدي والمُكابرة على الأوجاع. جدد الفكر اليساري وأدخل عليه مفهوم العمل للمستقبل من خلال عضويته في المكتب السياسي لتيار «المستقبل« وهو الذي شكّل صلة الوصل بين لقاء «قرنة شهوان« والرئيس الشهيد رفيق الحريري. وظل حتّى آخر أيّام حياته المدافع الأشرس عن وحدة لبنان وعن فكر «ثورة الأرز» وخطها الوطني والسياسي، وبما أن للذاكرة عنواناً وتاريخاً، يذكر كثيرون من أصدقاء «البيك» يوم قال لهم إن «ثورة الأرز ستتحوّل ذات يوم إلى ثورة ياسمين في دمشق. لكن ربما غاب عن بال «البيك» أن نظام الأسد حوّلها إلى ثورة دماء وأشلاء.

في ذكرى صديقه الذي عايشه في حياته وحتى اللحظات الأخيرة قبل رحيله، يتحدث منسق الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار النائب السابق فارس سعيد عن نصير الأسعد، فيصفه بـ»رجل الفكر والمناضل، والكاتب، والصحافي، والأخ، والصديق ورفيق النضال والدرب الطويل. كانت له نظرة وفلسفة خاصة لكنها واقعية لا تركن إلى المستحيل والتصادم مع الغير. كان يؤمن بأن لبنان لجميع أبنائه وأنه علينا العمل لإستعادة أبنائه الضالين». ويُضيف: «قد يكون نصير آخر الميثاقيين في لبنان وآخر من حافظ حتّى الرمق الأخير على مفهوم العيش المشترك في بلد أصبح العيش فيه مجرد حلم بعدما رهنه البعض لمصالحه الخاصّة«.

ويتابع: «لقد غادر مواقع يسارية قديمة للإنتساب إلى التجربة اللبنانية بمفهومها الحديث، وكان أحد أهم آباء فكرة «14 آذار» منذ لحظة تكوينها حتى مماته، وأذكر أنه أُدخل المستشفى يوم حصول إشتباك في منطقة الطريق الجديدة، بين مجموعات مسلحة تابعة لـ»سرايا المقاومة» وأهالي المنطقة وكان يومها حريصاً جداً على ان لا ينزلق لبنان باتجاه اصطدام سُنّي – شيعي. بعد سنوات أربع على رحيلك يا صديقي أقول لك: على الرغم من أن الميثاقية والعيش المشترك هما في حالة تراجع، إلا أننا سنظل متمسكين بهما ولن نيأس طالما أن فكرك وفكر أصدقائنا ورفاقنا الشهداء الذين غادرونا قبلك وبعدك معنا«.

ويختم سعيد بالقول: «اليوم نستطيع أن نُكرّم نصير الأسعد من خلال إبقائنا على «14 آذار» والحفاظ عليها وعلى مبادئها، ولذلك اعتبر أننا لم نُكرّمه لأنني خائف على «14 آذار».