IMLebanon

نصرالله وعون مع النسبية المطلقة

شاء أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله خرق الحجب السياسية من جديد وتحريك ينابيعها بعد انتخابات بلديّة كشفت كما قال سماحته وكما أظهر ذلك معظم المتابعين عورة الطبقة السياسيّة في لبنان. الخطاب المولود من رحم يوم التحرير والمقاومة، موصول بآفاق المرحلة المقبلة وعناوينها واستحقاقاتها من لبنان إلى المحيط أو الإقليم الملتهب والمتوتّر، والآفاق كلّها في استجماع وحراك في مدى زمني مخطوف إلى انتخابات في الولايات المتحدة الأميركيّة، ومع الاختطاف تنفجر الأرض في لعبة شدّ الحبال، فمنها ما يحاول بعضهم الإيهام بالقدرة على تغيير قواعد الاشتباك، ومنها من يشاء الاستمرار في مشروع القضاء على القوى المتوحشّة، المدعومة من الخارج والمستندة بدورها بل المنطلقة من مشروع إسرائيليّ عامد على تفكيك المنطقة وتفيتيها وتغيير معالمها، فتضيع فلسطين الحقّ في متاهات الباطل وترتاح إسرائيل إلى أمنها واستقرارها وتعمد تاليًا على تمدّدها وفقًا لوعد بلفور ومقولات هرتسل من النيل إلى الفرات.

وكعادته شعّب نصرالله خطابه بنقاط ليست منفصلة على الإطلاق عن هذا الواقع، فلبنان جزء من سياق، وهو وبحسب الاعتبارات التاريخيّة المنبثق منها جزء من كلّ، فإمّا أن ينفجر الكلّ في هذا الجزء، أو يذوب الجزء في هذا الكلّ. قيمة الخطاب المقول بلهجة واضحة ولغة استراتيجيّة، أنّه حدّد مفاهيم سياديّة جديدة بالارتكاز المطلق بالمعنى الداخليّ على رفض قانون الستين بالنسبة للانتخابات النيابيّة، وأدلج المرحلة الجديدة بالنسبيّة التي تتيح وتبيح أوسع مشاركة سياسيّة من النخب ضمن الطوائف وفي قلبها. هذا القول معطى بحدّ ذاته، ويؤكّد، تاليًا صوابيّة ما ذهب إليه المؤسّسون لمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ، وعلى رأسهم نائب رئيس مجلس النوّاب سابقًا إيلي الفرزلي ومن كانوا إليه في تلك المرحلة، وما أكّد عليه العماد ميشال عون في مقاله الأخير المنشور في صحيفة السفير مؤخّرًا، وتكمّل تاليًا وبصورة فصيحة رؤية الرئيس إميل لحود بإصراره على مشروع يحمل في طياته عنوانين النسبية ولبنان دائرة واحدة، وهما الإطاران الوحيدان والجوهريّان في مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ.

وبالطبع، فإنّ المسألة بحدّ ذاتها دقيقة للغاية. ذلك، وبقراءة السيد ومعظم النخب السياسيّة اللبنانيّة، بأنّ جوهر النظام استحداث قانون للانتخابات، هو القاعدة التأسيسيّة له وجوهر وعماده وهيكله العظميّ. وقد رأى سماحته وبما لا يقبل التأويل والجدل، بأنّ الاستبقاء على قانون الستين إنتاج لطبقة احتكرت الحياة السياسيّة في لبنان والنظام السياسيّ فيه، وتصرّفت بآحاديات مطلقة مصنّفة أنفسها ناطقة باسم الطوائف اللبنانيّة. وممّا يجدر ذكره في هذا الخصوص، بأن سياق الاحتكار أنتج فسادًا كبيرًا في تركيبة العلاقة بين الطبقة السياسيّة واللبنانيين، واستباح الدولة فحوّلها إلى مزرعة مدارَة من مجموعة سياسيين، وجعلها على طريقة المؤرّخ الراحل الدكتور كمال صليبي « بيتًا بمنازل كثيرة»، وأكثر من ذلك بيتًا بلا سقف. وبيت القصيد هنا، بأنّ السيد نصرالله عندما يرفض مع العماد ميشال عون وعدد كبير من النخب السياسيّة قانون الستين فإنّه واستطرادًا رافض لكلّ هذا السياق الأجوف والمثقوب بل المعطوب، فالنسبية المطلقة مدى حقيقيّ لتحسين الحياة السياسيّة وتحصينها ودفعها باكتمال العناصر الدستوريّة والقانونيّة إلى مزيد من الكمال، وكما قال: « اليوم إذا أجرينا إنتخابات على قاعدة النسبية، حتى في الدائرة الشيعية قد يأتي مكوّن شيعي جديد، قد يأتي تكتل شيعي نيابي جديد، الله أعلم، نحن سنحترم هذا المكوّن الجديد ونتحول إلى الثلاثية. لكن لماذا ترفضون أنتم النسبية؟ لأنكم بصراحة، وبدون مجاملات، تصّرون على الإستئثار والأحادية في طوائفكم ومناطقكم، ولأنكم ترفضون أن يتمثل في المجلس النيابي، وفي الحياة السياسية، شخصيات، وبيوتات، وقوى، قد لا تحصل على 50% زائد واحد ولكنها تحصل على أربعين وثلاثين وفوق العشرين بالمئة. المنطق اليوم هو أن النسبية تؤمن أوسع تمثيل. الكل يأتي إلى المجلس النيابي، ويأتي الكل إلى الحياة السياسية، والكل يأتي يريد أن يشارك ببناء الدولة، ولا يستبعَدُ أحد، ولا يُقصى أحد له حيثية شعبية في الشارع، أي أحد لديه حيثية شعبية فالنسبية تحمله إلى مجلس النواب، وتجعل منه شريكاً في إعادة تكوين السلطة، أما غير ذلك فهو إصرار من بعض الزعماء على الاستئثار، وعلى الفردية، وعلى الأحادية، ولا يمكن أن يبني دولة، لا الآن ولا بعد خمسين عاماً ولا مئة عام». وبهذا المعنى فإنّ السيّد بهذا العنوان الملح فتح الطريق امام تكوين جديد للسلطة بقانون عصريّ، أساسه المناصفة الفعليّة بين المسيحيين والمسلمين وجعل المسيحيين شركاء للمسلمين في تكوين السلطة، وتمتين الشراكة المسيحيّة-الإسلاميّة في لبنان ودورها في إنتاج رئيس جمهوريّة قويّ بوجع الأعاصير المتفلّتة في المنطقة.

وما من شكّ بأنّ قراءته عموديّة بامتياز، انطلقت من توصيف المناسبة وتوقّفت عند الانتخابات البلدية ومعانيها في الجنوب وارتكازها على دور المقاومة في التحرير وهي نتيجة لفعل التحرير، والتحالف مع أمل فيها بلوائح انتصرت بمعظمها، وبعد ذلك انطلق إلى مسالة قانون الانتخابات في أبعاده وإعلاناته ورؤاه، ليمرّ نحو الانتخابات الرئاسيّة مؤكّدًا على أنه مع حصولها في أي وقت ومن شاء حصولها فعليه أن يحاور أو يفاوض وليس أن يدير ظهره كما قال، لينتهي في توصيف دقيق لما يحصل في المنطقة في اللحظات الفاصلة بين عهد أميركيّ وآخر مبديًا خشيته بأنّ يستهلك الوقت الفاصل المزيد من الدماء. ويكتشف القارئ بأن الخطاب وضع حدًّا لأطروحات مجوّفة ومعقّدة في تركيبتها ومبهمة في مسراها وهي على النحو التالي:

1-إغلاقه الباب أمام مسألة قانون الستين المرفوض من الجميع على المستوى الداخليّ، كما إغلاقه الباب على مشروع القانون المختلط، وهو بدوره قانون مسخ لا ينتج مخرجًا أو تسوية، وكما قال الرئيس حسين الحسيني إنه ينتج « ناس بسمنة وناس بزيت».

2-التأكيد على النسبيّة الشاملة في المدى اللبنانيّ وضمن الطوائف، وبتأكيده هذا يلامس بوضوح جوهر مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وعليه أكّد العماد ميشال عون بأنّه ينزع الصراع ما بين الطوائف ليغرسها في بنية الطوائف نفسها، وهذا عينًا ما يؤدّي إلى شيوع النسبية الشاملة ضمن كل طائفة فتنتج نخبًا سياسيّة جديدة تتشارك في تكوين السلطة السياسيّة في لبنان.

3-التسريع في مسألة الحلّ الداخليّ وضمن سلّة كان له ان طرحها في مناسبات عديدة، وأكّد تاليًا، بأنّه ليس مصرًّا على أن تحصل الانتخابات النيابيّة قبل الرئاسيّة، إنّما وبعد نجاح الانتخابات البلدية بعيدًا عن أية إشكالات أمنية خطيرة تذكر وبخاصّة في عرسال والتي أثبتت نتيجتها مدى القدرة على التغيير فإنّ الإمكانية متاحة للشروع في انتخابات نيابيّة أو رئاسية تنتج نوابًا جددً اوفقًا للنسبيّة، ورئيسًا جديدًا حتمًا ضمن التحالف الوطيد بينه وبين العماد ميشال عون.

4-الانطلاق من الحلّ الداخليّ إلى حالة تكوينيّة تغلق الباب على العواصف الهابّة من حولنا، وتمنع تسرّب الخارج إلى الداخل ليمثّل لبنان أنموذجًا للاستقرار المتين، فترتاح أرضه من أي احتراب ممكن أن يخترقها ويحرقها.

لقد وضع السيد تلك المسلمات الجوهريّة أمام اللبنانيين بصفاء عقل وبهاء روح وتوثّب مضيء رانيًا نحو الاحداث الأخيرة في المنطقة، فتقاطع كلامه مع معلومات تشي بأنّ سوريا متجهة إلى مزيد من الاحتراب وتبديل في قواعد الاشتباك. وتشير تلك المعلومات بأنّ متفجرتي طرطوس وجبلة تجيء في سياق واضح المعالم والآفاق كرسالة إلى روسيا بالذات، ويتم فحص تداعياتهما انطلاقًا من تبيان إذا ما كان ثمّة تنسيق بين القيادتين الأميركية والروسية ضمن سياق كامل وفي المدى المطل من ريف حلب حتى الفلوجة والرقة، أو أننا أمام تعثّر كبير في ظلّ وجود الجنرال الأميركيّ قائد المنطقة الوسطى جوزف فوتيل المتنقّل ما بين العراق وما بين الشمال السوريّ، ووجود اللواء قاسم سليماني على تخوم الفلوجة وحراك حيدر العبادي وكأنه أعد لمعركة الحسم. كلّ هذا ينطلق من خلط واضح للأوراق تسمح لهذه المنطقة بأن تنفجر وتتحوّل إلى شلاّل دم. وعلى الرغم من ذلك فإن خطاب أمين عام حزب الله أكّد بأنّ محور الدولة والمقاومة سينتصر، أي إن الثنائيّ الروسيّ-الإيرانيّ سينتصر في مضمونه، وتتجه داعش إلى النهاية العبثيّة.

وحتّى ذلك الوقت، الحلّ الداخليّ في مسألة تكوين السلطة بات ملحًا قبل أي وقت آخر ولا حجة لأحد على عدم تجسيد تلك الرؤية، وإلاّ فإن الحلّ الداخليّ سيكون مؤجّلاً إلى أن يحسم الميدان المعركة وينطلق الحلّ الداخليّ كجزء من خريطة تعدّ لمشرق جديد يفرضه الرابحون على الخاسرين سواء على الأرض أو بالرهانات.

خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، عماد الحلّ الجذريّ للأزمة اللبنانيّة وفصل لها عن طبيعة الصراع في المنطقة ومسراه، قليقبل عليه اللبنانيون بالحوار واللقاء والنقد حيث يجب النقد بهدوء ورضى وسلام، حتى نرث وطنًا جديدًا لنا ولأجيالنا من بعدنا.