IMLebanon

نصرالله والحريري: الملعب خارج لبنان

«حزب الله» مع «أنصار الله» الحوثيين في اليمن. «تيار المستقبل» مع «التحالف العربي» بقيادة السعودية. هذان الانحيازان مفهومان ومنطقيان ويتفقان مع المدرسة اللبنانية القديمة: لكل طائفة من يحميها أو من تحتمي به أو تحميه، ولكل جماعة اختصاص.

«حزب الله» ضد المعارضة في سوريا. «تيار المستقبل» مع المعارضة الساعية لإسقاط النظام. «حزب الله»، حليف سوريا في لبنان وحليف سوريا في سوريا. «المستقبل»، حليف السعودية في لبنان، وحليف السعودية في اليمن. وهذان الانحيازان هما من طبيعة الاجتماع السياسي اللبناني. نادراً ما اتفق اللبنانيون في خياراتهم الخارجية. اتفاقهم، إذا حصل، يكون بسبب خلو الإقليم من الصراعات.

«حزب الله» يدافع عن الضحايا الأبرياء في اليمن، وعن الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يدّعي النظام السعودي أنه يوفرهم، مؤكداً أن جهده العسكري الجوي منصب على الحوثيين وآلتهم العسكرية وجيش علي عبدالله صالح ووريثه المزمع. «تيار المستقبل»، يدافع عن الأبرياء من السوريين الذين يسقطون في ساحات القتال، وعبر القصف الجوي بالطائرات والبراميل المتفجرة. تكاد اللغتان تتشابهان. فلا الأول يأتي على ذكر النظام الذي يدافع عنه، ولا الثاني يرى في القصف الجوي السعودي ارتكاباً. وهذا ليس جديداً أيضاً. لبنان هو هكذا من زمان، إنما بمقدار يتصاعد، مع تصاعد القتال وتوسعه وتجذره وشموله دولاً وأنظمة وشعوباً.

إنها مسألة اختصاص. الكيان اللبناني، اجترح طرقاً خاصة به ليكون صادقاً مع نفسه. شعوبه تلتقي على المحاصصة التي تحترم حقوق الطوائف المنصوص عليه في القوانين والمثبتة في الأعراف. المحاصصة من المقدسات، والالتزام بها من الواجبات، والتغاضي عنها من الكبائر. التلاقي على المحاصصة وإدارة شؤون البلاد والعباد، يفرض إقامة حكومات، توزع «كوبونات» الفساد بالتراضي. اختصاص الحكومة شيء، واختصاص حكوماتها شيء آخر، وتحديداً في القضايا الكبرى.

قيل، وفي القول صدق وحق، ان «المقاومة» اختصاص «حزب الله». هذا الحزب، كان قد انتزع تمثيلها بالجهد والنضال والانتصار. انصرافه إلى المقاومة وتفوقه فيها على إسرائيل، منحاه، بالرضى أو عنوة، الانصراف إلى هذا الاختصاص، بكل ما أوتي من قوة وإيمان وصبر، وحرص على تأمين ظهره من حلفاء محور «الاعتدال». وقيل، وفي القول تطابق مع واقع الحال والمال، ان الاقتصاد هو اختصاص «تيار المستقبل»، الذي فرض انخراطه في قنوات العولمة أن يقطر العربة اللبنانية بقطار النيوليبرالية، بوجهها العقاري الاستلابي، وتخليها الاختياري عن قطاعي الزراعة والصناعة، واستبدالهما بالخدمات المالية والمصرفية وملحقاتها ومشتقاتها.

وتعايش هذان الاختصاصان في ظل الحقبة السورية، ويتعايشان الآن، في حكومات «وحدة وطنية» أو «الوفاق الوطني» أو… في الحقيقة، حكومات سلطات الأمر الواقع، بالاختصاصات المحددة، القوى العابرة للاختصاصات، ذات اوزان خفيفة، وقدرات تعطيلية فقط، كتعطيل المسار النفطي، إلى أن تتم المحاصصة المُرْضية والمَرَضية.

من شواهد ومآثر السياسة الخارجية اللبنانية، ان الدولة، سلطة ومؤسسات، كانت تؤثر اللاموقف. تتهرب من الانحياز إلى محور ضد محور. أفضل الفلسفات، فلسفة الرئيس حسين العويني: «هيك وهيك». أي موقف اللاموقف. انحياز الدولة عبر مؤسساتها الشرعية، يهدد بانفراط «العقد» السياسي ـ الاجتماعي. بداية الانحياز لـ «مشروع ايزنهاور» في عهد الرئيس كميل شمعون، واجهه فيليب تقلا في مجلس النواب، مخاطباً شارل مالك، وزير الخارجية آنذاك، بالحكمة اللبنانية السائدة:

«الشارع يحدد السياسة الخارجية».

نعم. الشارع يقرر سياسة لبنان الخارجية، تاركاً السلطة في حالة اللاقرار، كالنأي بالنفس مثلاً، أو الحياد بوجهيه، السلبي والايجابي، والشارع في لبنان ذو أهواء، تحدد سياساته وتملي عليه الولاء للخارج.

قد يبدو ذلك غريباً جداً ومستهجناً، بل ومستنكراً، أصحاب النظريات السليمة في فهم الدولة، بنية وسلطة ومؤسسات، يرون ذلك تهديماً لمنطق الدولة، فهي صاحبة الحق الوحيدة في احتكار مبدأ السياسة وممارستها. لا تتنازل الدولة عن جزء من سيادتها، في منظومة المجموعات الإقليمية والدولية، إلا منظومة أشمل منها. فالدول الأوروبية المنتمية إلى الاتحاد الأوروبي، تنازلت عن بعض سيادتها، لصالح «الاتحاد». فيما الدولة اللبنانية، ومن يشببها، تتنازل عن بعض سيادتها للمجموعات الأدنى منها. سيادة لبنان في الداخل، موزعة على القوى الطائفية السياسية، صاحبة القرار في الصغيرة والكبيرة، وصاحبة الارتكاب للصغائر والكبائر، استغلالاً وفساداً. تمارس هذه القوى، من خلال ممثليها في السلطة، حكومة ومؤسسات، حق النقض والقبول، وحق إقفال المؤسسات وفتحها، وحق وقف العملية الانتخابية، نواباً ورؤساء، وحق التمديد والتجديد، الخ لهذه القوى حقوق الارتكاب التي تناسبها. المؤسسات الدستورية تؤمن الشكل والإخراج، وهي في هذا الدور، ليست صانعة سياسات وإدارات وموازنات، وأفدح برهان على ذلك، «عدم تنازل» زعماء هذه القوى للمشاركة الشخصية في السلطة. يفضلون الاحتفاظ بالقرار في مواقعهم، تاركين لأتباعهم، أو لممثليهم أو للموظفين عندهم، وزراء ونوابا ومدراء، صفة الحضور والتمثيل، بلا قدرة على اتخاذ قرار. فهؤلاء الزعماء أكبر من الدولة ومؤسساتها.

برهنت هذه الآلية، ما دون الدولتية، كل صوابيتها الواقعية وعدم مواءمة النظرية السليمة لمفهوم الدولة مع طبيعة الكيان ومجموعاته القَبْليَّة. والحياة، وقائع لا نظريات. لقد ثبت من خلال التجارب، ان «البلاد اللادولتية» هي الأفضل للبنانيين، وأكثر سلامة لعيشهم. ففي السلطة تتساكن الطوائف والمذاهب، برغم أحقادها. تجمعهم فيها وليمة المنافع والمحاصصة. وفي السلطة كذلك. يتساكن من هم مع إيران وضدها، ومن هم مع السعودية وضدها، ومن هم مع أميركا وضدها، ومن هم مع القرارات الدولية وضدها، ومن هم مع المحكمة الخاصة بلبنان ومن هم ضدها. ويحصل ذلك، برغم التشنج والصوت العالي، بأقل الخسائر الممكنة، ويحظى لبنان بسببها، بأمن معقول، يتم الحصول عليه، بالتراضي.

ما يقوله «حزب الله» عن اليمن والسعودية وسوريا و… وما يقوله سعد الحريري ضده، لن يتم صرفه في لبنان. الملعب اللبناني فارغ، إلا من حملة الرسائل الأمنية. اللاعبون اللبنانيون، خرجوا من الملعب اللبناني، ليمارسوا قتالهم في ميادين سوريا والعراق واليمن والبحرين و…

بكل أسف… هذا هو لبنان، بصيغة اللادولة.