IMLebanon

الحِيادُ الناشطُ رسالةُ لبنان وقوَّتُه (1)

طرحتْ مواقفُ الدولِ العربيّة الأخيرة تجاهَ لبنانَ إشكاليةَ السياسيةِ الخارجيةِ اللبنانية، فبدا لبنانُ مُستفرَداً ومستضعَفاً ومُربَكاً بين أحدِ مُكوِناتِه (حزبُ الله) وأشقائِه (مجلسُ التعاونِ الخليجي). وبدأ البحثُ عن أيِّ سياسةٍ خارجيةٍ يَنتَهج فيما الحيادُ الناشطُ هو مَطلعُ الجواب.

صحيح أن رسالةَ لبنان تُحتِّمُ عليه الانحيازَ، إنه وطنُ القلب. لكنَ مَوقِــعَه يُحتِّم عليه الحيادَ، إنه في قلبِ الأزَمات. والمعادلاتُ الإبداعيّةُ في العِلمِ والفلسفةِ، وحتى في السياسةِ، غَالباً ما تنشأُ مِن مَزْجِ التناقضاتِ أكثر من جَمْعِ المتَشابِهات. أنّى للبنانَ إذَن أنْ يُوَفِّقَ بين رسالتِه التاريخيّةِ ومَوقعِه الجيوسياسي، وبين فِطرةِ الانحيازِ وحِكمةِ الحياد؟

مبدأُ الحيادِ لجأَت إليه الشعوبُ بسببِ هزيمةٍ عسكريّةٍ كالنَمسا، أو بسببِ حروبٍ داخليّةٍ كسويسرا، أو بسببِ جِوارِ دولةٍ كبرى تَوسُّعيّةٍ كفِنلندا، وغالباً للأسبابِ الثلاثةِ معاً. بفضلِ حِيادٍ مُتفاوِتِ المستويات، تَفادَت هذه الدولُ الثلاث شَبحَ التقسيمِ أو الضّمِّ إلى دولٍ أخرى. كلُّ هذه الحالاتِ، لاسيّما خطر التقسيمِ، قائمةٌ في لبنان وتَحُـــثُّــــنا على التفكيرِ في ما إذا كان الحيادُ مناسِباً للبنان.

تشخيصُ المعضِلة

كلبنانيين، قد نَختلِف على قضايا عديدةٍ، لكنّنا نتّفِق عموماً على أنَّ أزَماتِنا وحروبَنا نَشبَت نتيجةَ خِلافاتِنا الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، ووجودِنا في جِوارِ دولٍ أو أنظمةٍ طامِعةٍ بأرضِنا، وانحيازِنا ـ عقائدياً ونِضالياً وعسكرياً ـ إلى صراعاتِ المحيطَين العربيِّ والإسلاميِّ وحتى الدوَليِّ.

والمُصيبةُ الأعظم، أنَّ هذه العناصرَ الثلاثة حالَت أيضاً دونَ اتفاقِنا على قواعدَ متينةٍ لِحَلٍّ دائمٍ للأزَماتِ والحروب، فاكتفَينا، على مَضَضٍ، بتسوياتٍ سطحيّةٍ، اعتباطيةٍ ومؤَقّتةٍ، من حناياها فاحَت روائحُ الغَلَبةِ والغُبنِ، وفي طيّاتِها حَمَلت بُذورَ فِتنٍ لاحِقة.

إذا كان هذا المَحْضَرُ صحيحاً، هناك حقيقةٌ ملازِمَةٌ له هي أنَّ نوعيّةَ وَطنيّتِنا لم تُساعِدْنا على تَخَطّي انقسامِنا الطائفيِّ وانحيازِنا للخارج وعلى مَنعِ الآخرين من التَدخُّلِ في شؤونِنا. عدم التَصَدّي لهذا الواقعِ اللبنانيِّ يُعَرِّضُ لبنانَ لثلاثةِ احتمالاتٍ أحلاها مُرٌّ: استمرارُ الفتنِ عَبْرَ الأجيال، تقسيمٌ واقعيٌّ أو شرعيٌّ، وسيطرةُ فريقٍ بالقوّةِ على باقي الأفرِقاء.

لا تلكَ الخلافاتُ ولا هذه الاحتمالاتُ قدَرُ لبنان. وإن كانت كذلك، فالتقدُّمُ الحضاريُّ والعِلميُّ وَفَّرَ وسائلَ السيطرةِ على القدَرِيَّةِ لصالح الإراديّة. الشعوبُ العظيمةُ لا تَخضعُ لقدَرِها بل تَصنعُ مصيرَها. القدَرُ ذريعةُ الشعوبِ الجَبانةِ، الضعيفةِ، المُغَفَّلةِ، الجاهلِة، والوثنيَةِ. الإرادةُ عزيمةُ الشعوبِ الشُجاعةِ، الواعيةِ، الراقيةِ، المؤمِنةِ، والمُصَمِّمةِ على إنقاذِ وجودِها من تجاربِ التاريخ، وتَثبيتِه حراً ومُوَحَّداً من خلالِ صيغٍ دستوريّةٍ حديثة.

تَلمُّسُ الحل

قد يكون وَصْفُ الحيادِ عِلاجاً مفيداً للبنان، لكنّه وَحده ليس حلاً كافياً لأن أمراضَ لبنانَ عديدةٌ وتحتاجُ عِلاجاتٍ مُرَكَّبةً لتنالَ من مُختلَفِ الجراثيمِ العابثةِ بالجسمِ اللبناني. إلا أنَّ الحيادَ يَقتُلُ بالتأكيدِ الجُرثومةَ الأساسيّةَ المفــجِّــرةَ (لا المُسَبِّبة) لحروبِ لبنان وهي: الانحيازُ العقائديُّ والنِضاليُّ والعسكريُّ إلى الصراعاتِ الخارجية.

بيْدَ أن مشروعَ الحيادِ لا يَحظى حتى الآن بإجماعِ اللبنانيّين. لذا يَتوجَّبُ شرحُ حسناتِه وسيّئاتِه لئلا يَتَحوّلَ طرحُه مشكلةً جديدةً كما صارت حالُ العلمنةِ (عِلاجِ الطائفيّةِ) وحالُ الفِدراليّةِ (عِلاجِ التعدديّة).

قبل أن يكونَ موقِفاً سياسياً، اعتمادُ الحيادِ اللبنانيِّ هو وَقفةُ ضميرٍ تِجاه الوطن. من يُحبُّ وطنَه لا يَـــتركُـه مريضاً، وشفاؤه ممكن. إنَّ الاحتكامَ إلى الأخلاقِ، لا إلى السياسةِ، كفيلٌ بإزالةِ غالِبيّةِ تَحفّظاتِ اللبنانيّين.

الميثاقُ التضامني

لكنَّ اعتمادَ الحيادِ استناداً إلى مَنطقِ الأخلاقِ يؤَدي إلى سؤالٍ استطراديٍّ هو: أإغِفالُ مصائب الآخرين بِحُجّةِ الحيادِ هو عملٌ أخلاقيّ؟ طبعاً لا. في بدايةِ القرنِ التاسعِ عَشَرَ لَحَظَ بورتاليس Portalis 1746) ــــ 1807(، أبرزُ واضِعي القانونِ المدنيِّ الفرنسيّ، ضرورةَ أن تُستَكْمَلَ العلمنةُ بـ»أخلاقيّةٍ دينيّة» (morale religieuse) خشيةَ أن تَقضيَ على القيمِ الروحيّةِ في المجتمعِ الفرنسي.

كذا الحيادُ لا يستقيمُ في لبنانَ ما لم يَتحصَّن بـ»أخلاقيّةٍ تضامنيّةٍ» تُجيزُ للدولةِ والمواطنين مناصرةَ قضايا الحقِّ والعدالةِ وحقوقِ الإنسانِ والشعوبِ في الشرقِ والعالم. وأيُّ حِيادٍ خارج هذا الميثاقِ الأخلاقيِّ حالةٌ بيلاطُسِيّةٍ وانعزاليّةٍ تَتنافى مع نُبلِ اللبنانيّين ومشاعرِهم، إذ لا سعادة تِجاه شقاءِ الآخرين.

الحيادُ اللبناني في جوهرِه هو انحيازٌ نِسبيُّ ونوعيّ، إذ يَنقُلُ التضامنَ من المستوى السياسيِّ والعسكريِّ إلى المستوى الإنسانيِّ والاجتماعيِّ والإعلامي. والحيادُ لا يُقيم جِداراً بين لبنان وبين محيطِه والعالم.

على سبيلِ المثال: الحيادُ اللبنانيُّ لا يعني الاستقالةَ حتماً من «الجامعةِ العربية»، ومن «منظّمةِ المؤتمرِ الاسلاميّ»، ومن «مُنظَمةِ الأممِ المتّحدة»، بل يُفعِّلُ دورَ لبنانَ في كلِّ هذه المؤسّساتِ وفي غيرِها ويَجعلُه شريكاً في إيجادِ الحلولِ عِوَضَ أن يَبقى ضحيّةَ الخِلافات والصِراعات.

أنواع الحياد

إن كانت أهدافُ الحيادِ ثابتةً (الاستقلال والديمقراطية والأمن والحرية)، فمفاهيمُه مُتنوِّعة. ليس الحيادُ صيغةً مُعلَّبةً تَصلُحُ لكلِّ دولةٍ في كلِّ زمانٍ ومكان. هو فكرةٌ سلميّـــةٌ يُـــكـيِّفُها كلُّ شعبٍ حسْبَ مشاكلِه وأوضاعِه وحاجاتِه. هناك الحيادُ الدائمُ تِجاه كلِّ النزاعاتِ الذي اعتمَدتْه سويسرا.

وهناك الحيادُ الإيجابيُّ الذي مارَستْه النمسا، فلعِبت أدواراً سياسيّةً على الصعيدين الأوروبيِّ والدوليِّ لامَسَت حدودَ الانحيازِ أحياناً. وهناك الحيادُ الظرفيُّ الذي تَتّخِذه دولةٌ حِيالَ نِزاعٍ مُحدَّدٍ على غِرارِ ما فعلت السويد في الحربين الأولى والثانية. وهناك الحيادُ المراقَبُ الذي فَرضَ على فنلندا مسايرةَ الإتحادِ السوفياتيّ، الملاصِقِ لها، طَوالَ فترةِ الحربِ الباردة.

في كلِّ الأحوالِ، الدولةُ الحياديّةُ تَمتَنعُ عن الاشتراكِ في حروبٍ خارجيّةٍ، عن توفيرِ دعمٍ ماليٍّ وسلاحٍ للقوى المتحارِبة، وعن المشاركةِ في حصارٍ اقتصاديٍّ في زمنِ السِلم. لكنْ، يَحُقُّ لها الاحتكامُ إلى السلاحِ دفاعاً عن شعبِها وأراضيها، ومواصلةُ التبادلِ التجاريِّ السلميِّ مع دولةٍ مُحاصَرةٍ، والمحافظةُ على حريّةِ صِحافتِها وتعزيزُ ديبلوماسيّتِها، إلخ.

حياد فنلندا المراقب

تُظهِرُ التجاربُ أنَّ الدولَ التي اعتَمدَت الحيادَ وضَمِنتهُ واحترمتهُ، أنقذَت وجودَها من دونِ أنْ تَفقُدَ كرامتَها، عِلماً أن مفهومَ الكرامةِ في السياسيةِ ثقافةٌ نِسبيّةٌ تُرادِفُ المصلحةَ الوطنيّةَ العليا. كان الرئيسُ الفِنلندي «جوهو كوستي بآسيكيفي» Juho Kusti Paasikivi (1956 – 1946) يُبَرِّرُ مسايرتَه الاتحادَ السوفياتيَّ بالقول: «جيدٌ أن تَرفَعَ القُـــبّــعَةَ، فرَفْــعُـــها لا يُــــكـَـــلِّـــفُــك شيئاً».

لكن هذا التعبيرَ الإيحائيَّ لم يَمنعْ فِنلندا من المحافظةِ على استقلالِها وسيادتِها في أحلكِ الظروفِ رُغم أنَّ حِيادَها، خِلافاً لسويسرا والنمسا، ليس مَضموناً ولا مُشَرَّعاً بمواثيقَ دوليّة.

لذلك رأينا فِنلندا سنةَ 1956 تُدينُ مِن جهةٍ اجتياحَ الجيشِ السوفياتيِّ المجَرَ، وتأخذُ من جهة أخرى على المجَرِ خروجَه الأحاديَّ على «معاهدةِ الصداقةِ والتعاونِ والمساعدةِ» المُوقَّعةِ مع موسكو.

حالُ سويسرا والنمسا مختلِفةٌ. حيادُهما مَنيعٌ أكثرَ من فِنلندا لأنَّه مُشرَّعٌ دستوريّاً ومُصانٌ أوروبيّاً ومُعترَفٌ به دولياً.

النموذج السويسري ودروسه

قبلَ إعلانِ حيادهِا سنةَ 1515، كانت سويسرا مسرحَ حروبٍ أهليّةٍ، ودولةً تَشتركُ في غالِبيّةِ الحروبِ الأوروبيّة. لكن، إثرَ هزيمتِها في معركةِ «مارينيان» Marignan في إيطاليا أمامَ ملكِ فرنسا، فرنسوا الأوّل، تأَكّدَ شعــبُــها أنَّ بلادَه ليست قوّةً أوروبيّةً كبيرةً لتَرتَكِبَ مغامراتٍ عسكريّةً أو لِتنحازَ إلى جانبِ إحدى القِوى الأوروبيّةِ المتُصارِعة.

وتَيقَّنَ السويسريّون أيضاً من أنَّ انقساماتِهم الدينيّةَ واللغويّةَ والثقافيّةَ تَحُول دونَ إتّباعِ سياسةٍ خارجيّةٍ واحدةٍ وسياسةٍ دفاعيّةٍ واحدةٍ، فأعلنوا حِيادَهم خِشيةَ تَجدُّدِ الفِتن الداخليّةِ أو تقسيمِ بلادِهم ثلاثَ دولٍ (Uri, Schwytz, Unterwald)، أو التحاقِ كلِّ مجموعةٍ منهم بدولةٍ مجاوِرةٍ تَتجانَسُ معها دينيّـــاً أو لُغويّـــاً (فرنسا، ألمانيا وإيطاليا).

ظلَّ حيادُ سويسرا غيرَ مَضمونٍ أوروبيّاً حتى مؤتمرِ باريس سنة 1814، ثم ثُــبِّــتَ، بعد سقوطِ نابوليون، في مؤتمرِ فينيا في 20 تشرين الثاني سنة 1815 حيث اعترَفت كلٌّ من النمسا وفرنسا وإنكلترا والبرتغال وبروسيا وروسيا بحيادِ سويسرا الدائمِ وضَمِنَته، كما ضَمِنَت حدودَ الوطنِ الجديدِ وسيادتِه.

لم توافق هذه الدولُ على حيادِ سويسرا لمصلحةِ سويسرا فحَسب، بل لأنّها وَجدت في حيادِها إفادةً للأمنِ الأوروبيِّ. والدليلُ، أنه منذ ذلك التاريخِ لم يَخرُق الحيادَ السويسريَّ أيُّ غازٍ حتى في الحربَين العالميّتين الأولى (1914) والثانية (1939).

مع تعزيزِ الحيادِ السويسريِّ والتأكّدِ من مناعتِه أمامَ التحديّات، بَدأت المُنظّماتُ والجمعيّاتُ الدوليةُ تَستوطنُ أرضَ سويسرا. ولما انتَهت الحربُ الأولى اختارَ العالمُ جنيف مَقرّاً لـ»جمعيةِ الأممِ» SDN.

وزادَ انفتاحُ العالمُ على سويسرا ومَنحها دوراً شِبهَ مُوازٍ لدورِ الأممِ المتّحدةِ، رُغم أنّها لم تَنضَم إلى منظمةِ الأممِ المتّحدةِ إلا سنةَ 2002، فيما لا تزال تَرفُض الالتحاقَ بالوِحدةِ الأوروبيّة.

ما مِن منظّمةٍ عالميةٍ إلا ولها تمثيلٌ رئيسيٌّ أو فرعيٌّ في سويسرا. وما من أزمةٍ أوروبيةٍ أو دوليةٍ لم تُساهم سويسرا في معالجتِها. مِن أجلِ الحربِ ضِدّ الإرهابِ، شاركت في منظّمةِ «التعاونِ من أجلِ السلام» وفي «مجلسِ التعاونِ الأوروبيِّ ـ الأطلسي».

ومِن أجلِ احتواءِ المَلَفِ النوويِّ الإيرانيِّ اقترحت في 21 آذار 2007 أن تَحتفِظَ طهرانُ بالبُنيةِ الأساسيةِ الحاليّةِ للتخصيبِ مِن دونِ أن تَضُخَّ أيَّ غازٍ لسادِسِ فلوريد اليورانيوم المعاَلَجِ إلى أجهزةِ الطَرْد…. أتُضير التجربةُ السويسرية لبنان؟

(غداً الجزء الثاني)