IMLebanon

لا ضيقاً بالنازحين بل خوفاً من التقسيم

تتفقُ المرجِعياتُ الدوليةُ معنا على الخطر الذي يُشكّـله على لبنان وجودُ أكثرَ من مليونٍ ونصفِ مليونِ نازحٍ سوري. لا بل تُزايِد علينا بتوصيفِ معاناةِ اللبنانيين وخسائرِهم جرّاءَ النازحين، وتَستفيض إشادةً بالضيافةِ اللبنانية. وآخِرُ نَموذجٍ: كلامُ المفوّضِ السامي لشؤون النازحين «فيليبّو غراندي» الذي استهْولَ وجودَ نازحٍ سوريٍّ مقابلَ كلِّ أربعةِ لبنانيين (03 شباط).

لكن الاختلافَ يبدأ حين نطالب هذه المرجِعيات ـ احتراماً لهَوْلِها على الأقل ـ بوضعِ مشروعٍ زمنيٍّ لإعادةِ النازحين، فترفض وتَرُدّ بمشروعٍ لتثبيتِ بقائِهم في لبنان وتعليمِهم وتوظيفِهم ودمجِهم في المجتمع اللبناني، وهو توطينٌ من دونِ كلمةِ توطين.

هذا لا يعني بالضرورةِ أن المسؤولين الدوليين المعتمَدين في لبنان، يتآمرون على لبنان. إنهم يُحبّونه. لكنَّ ما يَظنّون أنه صحٌّ إنسانياً هو خطأٌ وطنياً. وفي جميعِ الأحوال لبنانُ هو الضحية.

إن مقاربةَ موضوعِ النازحين السوريين في لبنان من زاويةٍ إنسانيةٍ هو خطأٌ استراتيجيّ وتكرارٌ، بدونَ تصحيحٍ وتنقيحٍ، للخطأِ الذي سَــبقَ وارتكبَه المجتمعُ الدولي ذاتُـه بمَلفِّ اللاجئين الفلسطينيين. إن النزوحَ السوريَّ في لبنان هو أزمةٌ سياسية ووطنية قبلَ أن يكونَ أزمةً إنسانية، إذ هو نشأ عن حربٍ لا عن كارثةٍ طبيعية.

وبالتالي يَتحتَّم أن تكونَ مقاربتُه سياسيةً لا إنسانيةً فقط، خصوصاً وأنه مرتبطٌ بثلاثةِ معطياتٍ، واحدُها أخطرُ من الآخر: النظرةُ السوريةُ التاريخيةُ إلى لبنان، مخطّطاتُ التهجيرِ التي تَعُمُّ الشرقَ الأوسط، والفرزُ المذهبيُّ المتَعمَّد في حربِ سوريا.

صحيحٌ أن النازحين السوريين يفضّلون مبدئياً العودةَ إلى بلادهم، لكنهم لا يَعتبرون وجودَهم في لبنان حالةً اغترابية، فجُزءٌ من لبنانَ، في نظرِهم، امتدادٌ لسوريا.

لم نَنس النزاعَ بين الدولتين حولَ الأقضيةِ الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا)، ولا نَسينا كذلك عبارةَ حافظِ الأسد ونجلِه: «اللبنانيون والسوريون شعبٌ واحدٌ في دولتين». وبالتالي، سِيّانِ للسوريين النازحين بقاؤهم في لبنان أو عودتُهم إلى سوريا: أتَوْا من محافَظةٍ إلى «محافظة أخرى» وليس من بلدٍ إلى بلد آخر.

ويَزيد من قلقِنا أنَّ النزوحَ السوريَّ يتحوّل تدريجاً هِجرةً سوريةً نحو «المجتمعِ اللبناني» بحثاً عن مستقبلٍ جديد ونمطِ حياةٍ آخر. وهذا التحوّلُ لا يَندرج في سياقِ الحربِ السورية فقط، بل في حركةِ هجرةِ شعوبِ دولِ الشرق الأوسط بين إيران والعراق والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان في إطارِ التقسيماتِ الناشئةِ داخلَ كلِّ دولةٍ أو عبر حدودِها.

فالنزوحُ ما عاد أمنيَّ الخلفيةِ بقدْرِ ما أصبح تبادلَ سكانٍ على أساسٍ إثنيٍّ وطائفيٍّ ومذهبيٍّ. مجردُ مراجعةِ بياناتِ حركة نزوحِ مُكوِّناتِ هذه الدولِ الستِّ تكشف أن هذا النزوحَ، الناتجَ عن تهجيرٍ مُبرمَجٍ وَفقَ مقتضياتِ الوَحَدات الكيانيةِ الجديدة، تُطبَّقُ عليه صفةُ نقلٍ سكانيٍّ جَماعيٍّ (transfert et déportation) على غرارِ ما حصلَ بين شعوبِ روسيا والقوقاز والشيشان (منتصفَ الأربعينات) وبين اليهودِ والفِلسطينيين (أواخرَ الأربعينات) وبين شعوبِ البلقان (في التسعينات).

إنَّ مواطني دولِ المِنطقة أصبحوا مواطنين برسمِ النزوحِ نحو إقليمٍ آخَر أو مجتمعٍ آخر أو دولةٍ أخرى أو حتى نحو هوّيةٍ أخرى. أصبحت العودةُ إلى البداوةِ طموحَ الشعوبِ العربية (فـ «ما الحبُّ إلا للحبيب الأول»).

ويَكبر قلقُـنا حين نرى أن نوعيةَ المعاركِ التي حَصلت ولا تزال تحصُل في سوريا ذاتُ هدفيةٍ مذهبية. فخِلافاً للثوراتِ في مِصرَ وتونس وليبيا، استهدفت «الثورةُ» السورية عَلَويَّةَ النظامِ لا استبداديَّتَه فقط، وأمسَت حرباً سُنّيةً متطرفةً وإرهابية ضِدَّ الأقليّاتِ والمعتدلين كافة.

أما المعارضةُ السوريةُ العَلمانيةُ والتقدميةُ التي كانت واجِهةً تمويهيةً مرحليةً (trompe-l’oeil) فسُرعان ما كَفَرت أمام التكفيريّين. لذلك لن يُسهِّلَ النظامُ ذو الطابَعِ العَلَويّ عودةً جَماعيةً للنازحين السُنّةِ إلى سوريا الجديدة المُفرَزةِ مذهبياً والسائرةِ نحو شكلٍ فدراليٍّ ما. فالنظامُ الحالي يَعتبر جُزءاً من شعبه عدوّاً (والعكسُ صحيح)، وكلاهما لا يأمَنان العيشَ معاً.

وبالمناسَبة: ألم يَتوقّف المسؤولون الدوليون عند رفضِ النظام السوري (حتى الآن) مشروعَ المناطقِ الآمنة؟ ألم يتساءلوا أيضاً، وهم الذين يَدعون إلى أن يُقرّر النازحون بأنفسِهم زمنَ عودتِهم، عن سببِ عدمِ رجوعِ أيِّ نازحٍ سوريٍّ إلى بلادِه رغم هزائمِ داعش والنصرة وانسحابِهما من مناطقَ ومدنٍ سُنيّةٍ عديدة وسيطرةِ النظامِ عليها؟

تجاه هذه المعطياتِ اللبنانيةِ والسوريّةِ والشرقِ أوسطية، يستحيل على المسؤولين الدوليّين معالجةُ موضوعِ النزوحِ السوري كحالةٍ إنسانيةٍ، خصوصاً وأن هذه المعالجة أثبتت عُـقمَها منذ ستِّ سنواتٍ إلى اليوم، فلم تُخفِّف عن السوريّين ثقلَ النزوحِ ولا عن لبنان عِبءَ النازحين.

اللبنانيون ناقمون والسوريون ساخطون. إنَّ الهيئاتِ الدوليةَ تُدير مَلفَّ النازحين وكأنهم حالةٌ قائمةٌ بذاتِها بمُوازاةِ الوضعين اللبناني والسوري، في حين أن مستقبلَ هذين البلدين متوقِّفٌ على إدارةِ مَلفِ النازحين.

من هنا، يستحيل على المسؤولين الدوليّين أيضاً أن يرفضوا سلفاً مشروعَ المناطقِ الآمِنةِ قبل معرفةِ نتائجِ الاتصالاتِ العربيةِ والدولية الجاريةِ بشأنه. إلا إذا كانوا يقومون، بعضُهم عن سذاجةٍ وبعضُهم الآخرُ عن تواطؤٍ، بتحضيرِ البيئةِ الجغرافيةِ للكِيانات الجديدة تحت سِتارٍ إنساني.

تجاه هذه المواقفِ الدولية، واجبُ الحكومةِ الحالية أن تُعطيَ الأولويةَ لمَلف النازحين قبلَ ضَياعِ ما بقي من لبنان. وعوضَ أن تتلهّى بوضعِ خُطّةٍ جديدةٍ للاستجابةِ لوجودِهم في لبنان ـ وهي موجودةٌ منذ سنةِ 2014 ـ حَريٌّ بها أن تضعَ خُطّةً لإعادتِهم إلى سوريا من خلالِ تَبنّي مشروعِ المناطقِ الآمنة لئلّا يَتمَّ تنفيذُه لمصلحةِ الاردن وتركيا دونَ لبنان.

في أولِ تشرينَ الأولِ 2014 – وفي برنامج «بموضوعية» من محطة «إم تي في» – طرحتُ فكرةَ المناطقِ الآمنةِ وكرّرتُها في مجالسِ الوزراء ثم فَصَّلتها في مؤتمرٍ صحافي (17 أيلول 2016). وها الفكرةُ تَشُقُّ طريقَها عربياً ودولياً بموازاةِ المفاوضاتِ السياسيةِ في جنيف وأستانا. إنها مسألةُ زمانٍ وليست مسألةَ مكان، ونجاحُها مؤشِّرٌ لأيِّ سوريا ستولد ولأيِّ لبنانَ سيبقى.