IMLebanon

سنديانة جبيلية

لم تكن نهاد سعيد «أخت الرجال»، كانت سيدة كاملة الأنوثة، كاملة المواصفات، سيدة رفضت أن تستكين لكونها امرأة، وفي مجتمع ذكوري، وزوجة طبيب، ونائب وبيت سياسي. رفضت نهاد سعيد أن تكون أرملة النائب الدكتور انطوان سعيد الذي رحل فجأة بعد سنة على انتخابه نائباً، فقررت إكمال مسيرة زوجها الراحل، ولكن في مواجهة من؟ 

في العام 1965، قررت الترشح للانتحابات الفرعية، خلفاً لزوجها الراحل، في مواجهة عميد الكتلة الوطنية العميد ريمون اده، أرملة في الثالثة والثلاثين من عمرها، أم لستة أطفال كبيرهم في الثانية عشرة من العمر، ووريثة بيت سياسي «مفتوح» من والد زوجها، الدكتور فارس سعيد، الذي كان أول طبيب يحمل إجازة جامعية في الطب في بلاد جبيل، وقضاء بعلبك، فسكن قرطبا في جرود جبيل، بما هي حلقة وصل بين بعلبك وجبيل، يمارس مهنة الطب، وورثت نهاد سعيد، ديون تنوء بحملها رجال ومؤسسات، ومستشفى كان يديرها طبيب إنساني. ومع ذلك، قررت خوض المعركة الانتخابية في وجه خصم يُحسب له ألف حساب، ولولا المداخلات السياسية لكانت فازت في تلك الانتخابات، ولو أن أعراف اليوم كانت سائدة في الستينات، لكان العميد ترك المقعد النيابي للست نهاد، إلا أنها خسرت بفارق 200 صوت فقط، فلم تستسلم، بل عاهدت الذين اقترعوا لها، على السير معهم، فكانت سيدة تتقدم مجتمع الرجال، في بيئة جردية محافظة، رافقها «قبضايات» من النهج الشهابي، الدستوري، في وجه الكتلة الوطنية، فعبرت بالعائلة والبيت وسط مناخ سياسي في لبنان لم يكن ليستوعب وجود إمرأة في ملعب الرجال، وليس أي رجال، عهود ما بعد الشهابية، والرئيس شارل حلو، وعهد الرئيس سليمان فرنجيه، عهد الانقضاض على سلطة «المكتب الثاني»، الداعم الرئيس لبيت سعيد، فحافظت نهاد على رباطة جأشها، ونسجت صداقات تنسجم مع قناعاتها السياسية فوجدت في العلاقة السياسية مع الزعيم كمال جنبلاط سنداً، فخطبت في مهرجان للحزب الاشتراكي في طرابلس، وواظبت على خوض المعارك الانتخابية النيابية، والبلدية والاختيارية، لم تميز بين قرية شيعية وأخرى مسيحية، وكان لكل منطقة من بلاد جبيل في قلبها مكانة، بـ«قرنة الروم» ما بيحبونا، أهل المغيري ولاسا جيران وأصحاب، بالساحل نحنا وبيت شهيد الخوري، وهكذا كانت خارطة جبيل محفورة في عقل الست نهاد وقلبها، لم تفارقها حتى الرمق الأخير.

لم تقفل باب بيتها يوماً في وجه طالب حاجة، نصيراً كان أم محايداً، أم حتى خصماً، تسارع الى تلبية حاجاته، وإذا استعصى الأمر رافقته الى دائرة أو وزارة ولا تفارقه الى أن يحل مشكلته، كبيرة كانت أم صغيرة. 

في العام 1968، ترشحت للانتخابات النيابية، وكذلك في العام 1972، وكانت الظروف السياسية تعاكسها، فيجتمع على محاربتها عتاة الموارنة، في عز سطوتهم، واتفاقهم في إطار ما سمي بـ«الحلف الثلاثي»، فكانت سنديانة تنتصب بقامتها في وجههم، غير عابئة باتفاقات إلغاء. 

مع اندلاع الحرب الأهلية، كانت الست نهاد «صمام أمان» لبلاد جبيل، باختلاطها الشيعي السني المسيحي، فسعت بكل ما لها من علاقات واتصالات الى تحييد المنطقة عن أتون النزاع الطائفي، وبين منزلها في محلة المتحف، وقرطبا، كانت محور الاتصالات بين فعاليات المنطقة، الشيعة والمسيحيين، لما تربطها بالجانبين من علاقة احترام وثقة، فجنبت بلاد جبيل خراب نزاع طائفي، ووقّع فعاليات المنطقة في منزلها ما سمي بـ«وثيقة المتحف» للعيش المشترك في بلاد جبيل، وهي الوثيقة التي بقيت محل احترام الأهالي حتى نهاية الأعمال العسكرية الميليشيوية في المنطقة. 

في العام 1992، كانت فرصتها السانحة لخوض غمار الانتخابات النيابية والفوز بمقعد نيابي سهل، بعد أن أعلن البطريرك صفير مقاطعة المسيحيين الانتخابات، إلا أن الست نهاد استجابت لرغبة البطريرك، وأعلنت مقاطعة الانتخابات، ففرغت صناديق الانتخابات في جرود جبيل، من الأصوات، في أول استفتاء على ثقة الجبيليين بالبطريرك واستجابة لنداء «الست نهاد« التي وإن لم تحتل المقعد النيابي حينها، إلا أنها فازت سياسياً بثقة الجبيليين.

وهكذا، في العام 1996، دخلت الست نهاد تحت قبة البرلمان- نائب منتخب، بثقة الجبيليين، فتوجت مسيرة سياسية، بدأت منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي أخذت فيه نوبة قلبية رفيق دربها. 

واظبت الست نهاد على العمل النيابي، ولم تترشح لانتخابات العام 2000 فحل مكانها نجلها الدكتور فارس سعيد، وبقيت الست نهاد مقصد الجبيليين، تختلف مع فارس في السياسة وتصالحه، ولكنها لم تتخل يوماً عن متابعة قضية أو مطلب مهما كان شأنه، فتزيل عن كاهل ابنها الشاب مسؤولية، لينصرف الى تدعيم مداميك البيت السياسي. 

الست نهاد كما عرفتها، قامة لم تنحن يوماً، لا العمر أقعدها، لا السياسة ارغمتها على التقاعد، فحتى آخر يوم في حياتها حافظت على أناقتها الارستقراطية، وتسريحة شعرها التي ميزتها. والأهم حافظت على عرض منكبيها، واستقامة ظهرها. إنها نهاد سعيد التي فارقتنا. سنفتقدها، لكننا سنبقى نتذكرها ونضرب بها المثل. المرأة التي لم تطلب حصة من إرث زوجها السياسي، فحملته على أكتافها وسارت. المرأة التي لم تستغل أنوثتها لتستعطي مكانة البيت السياسي. المرأة التي لم تعرف أن في الحياة «كوتا» للنساء. المرأة التي كانت نداً للرجال وليس أي رجال. سنفتقد جرأة هذه السيدة وطلتها.