IMLebanon

«مطلبية مطلبية، لا سياسية ولا كيدية»

من بعيد، هي مجرد سيرك يحتشد فيه المهرجون والألعاب البهلوانية وأطفال يطيّرون البالونات، فيما توحي التلفزيونات بأنها ثورة منقطعة النظير ضد الطبقة السياسية. وهو ما تسهم فيه الأحزاب بقوة وتشجعه لتنفير جماهيرها وإعادتهم إلى بيوت الطاعة. أما عن قرب، فالمشهد مختلف بالكامل

أكثر ما يعيبه المعارضون للتظاهرات عليها، هو أبرز وأهم ما فيها. فبعيداً عن ملف النفايات، يحمل كل مواطن أوجاعه الخاصة ومشكلته الأساسية ويحضر إلى الساحة. هناك من يريد بيع سيارته ليكمل تعليم أبنائه، وهناك من يحتاج إلى عناية وزارة الصحة للحصول على علاج كيميائي، وهناك من يريد قانون انتخابات عادلاً، وهناك من يريد حلاً لانتزاع نمرة التاكسي منه، وهناك من يعجز عن شراء شقة سكنية، وهناك من أتعبته القروض المصرفية، وهناك من يريد حقوقه كمثليّ أو كمستأجر أو كأم لبنانية ممنوع عليها منح جنسيتها لأبنائها أو كمياوم وغيرهم.

لكل من هؤلاء موقفه السياسي وخياره الحاسم. لم تنفع عشر سنوات من الحملات المتبادلة في تغيير آراء اللبنانيين، ولن ينفع هتاف الآن أو صورة. لكن حب سعد الحريري وعشق المقاومة والجنرال والأستاذ والبيك وغيرهم لا يحول دون مطالبتهم بالكهرباء والمياه وفرز النفايات وتوفير فرص عمل وغيرها. ثمة ناشطون مسيّسون لديهم أجندات خاصة وتتبنّاهم بعض وسائل الإعلام يصرّون على مساواة جميع الأفرقاء السياسيين بالفساد كادوا يفشلون التحرك بولدناتهم، إلا أن عصب المشاركين أو مبرر نزولهم إلى الشارع لم يكن رغبتهم في القول لجميع السياسيين إنهم فاسدون، بل الضغط المعيشي ورغبتهم في القول إنهم ما عادوا يحتملون. خلافاً لما تحاول بعض وسائل الإعلام تشييعه، كان هناك في التظاهرة من يؤيدون ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، ويحبونهم ويحترمونهم، لكن هذا كله لا يحول دون مطالبتهم بحقوقهم. هذه كانت أولوية المشاركين، ومن كان هناك لاحظ أن عدد من حملوا صور السياسيين لا يتجاوز عدد من رفعوا صور كيم جونغ أون، مع العلم بأن الحركات المناهضة للطبقة السياسية مجتمعة اتخذت منذ أيام «11 آذار» وباخرة مرعي أبو مرعي أشكالاً مختلفة لم تنجح جميعها في استقطاب أحد. انتهى التحرك السابق لإسقاط النظام الطائفي حين قرر أحد المنظمين تحويله باتجاه إسقاط الزعماء السياسيين، وسيسقط تحرك اليوم في حال تواصلت المساعي التلفزيونية لتحويله من تحرك مطلبيّ إلى انتفاضة حزبيين ضد أحزابهم. من صنع فارق السبت الماضي كان المطالب الاجتماعية التي علت فوق المناكفات السياسية رغم كل المحاولات التلفزيونية والافتراضية لحثّ المتظاهرين على شتم السياسيين وتمزيق بطاقاتهم الحزبية وإعلان انسحابهم من أحزابهم. عملياً، يُنتخب سامي الجميّل فجبران باسيل رئيسين لحزبيهما من دون أن يخرج اعتراض جدي، فيما يسري التمديد والتجديد لقيادة حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي من دون صدور أي اعتراض، فيما يوحي بعض المنظمين ممن تحبهم وسائل الأعلام أكثر من غيرهم بأننا قاب قوسين من ثورة حزبية عارمة ضد قادة الأحزاب.

تحولت الساحة أول من أمس إلى مجموعة قصص يرويها أصحابها بتأثر مرة تلو الأخرى، في مشهد يستغربه طبعاً من اعتاد الرواية الواحدة في التظاهرة والثياب الواحدة والهتاف الواحد والمطلب الواحد. الصورة مختلفة طبعاً: أن تكون ميريام كلينك نجمة التظاهرة أفضل من أن تكون ماجدة الرومي التي تتحسر في مقابلاتها على أيام التسوق في باريس مع آل الحريري. أن يكون التحرك بلا قادة أفضل من أن يكون وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة قائدَيه. أما السؤال عن «المشروع الكامل» فيوحي بأن لدى أحزاب السلطة مشروعاً. كذلك فإن السؤال عن خارطة الطريق لتحقيق المطالب يوحي بأن السائلين يسيرون منذ عشر سنوات وفق خارطة طريق. وبعيداً عن خلفيات المنظمين والداعين وأهدافهم، قامت من بين الأموات أمس مجموعة موظفين في مطار بيروت، خمسة أو ستة، حملوا مصائبهم وأتوا. قام من بين الأموات أمس مجموعة كبيرة من سائقي السيارات العمومية حملوا يأسهم من ممثليهم المفترضين وأتوا. يتبيّن فجأة أن ثمة آلاف الشبان الذين يعتاشون من وظيفة «فالي باركنغ» أو «وايترز» وهم لا ينالون أجراً ثابتاً أو ضماناً أو أيّ حقوق وظيفية، بل يدفعون لأصحاب شركات الـ»فاليه» والمطاعم ليسمحوا لهم بالانتفاع من إكرامية الزبائن. تكتشف فجأة حجم المصائب التي يمكن أن يسبّبها محضر سرعة بسيط في ظل فوضى المؤسسات. تكتشف عدد الناقمين العكاريين الذين لا يجدون حزباً أو شخصاً يفشّ خلقهم. وتكرّ السبحة؛ فالصناعي الذي أقفلت الفوضى الاقتصادية مصنعه هنا، وبعض المزارعين الذين يريدون تصريف إنتاجهم أتوا علّ صوتهم يصل، ومن يمنعه المخفر من أن يبني منزلاً فيما يسمح لجاره رغم تشابه ظروفهما. وفي الساحة حشد ممن لا يجدون فرص عمل أو لا تكفيهم أجور وظائفهم لدفع المستحقات الكثيرة، كذلك حضر كثيرون ممن لا يشعرون بانقطاع الكهرباء لكنهم يريدون «مترو» وحقوقاً لحيواناتهم وخفض سعر بطاقات السفر وحل أزمة زحمة السير وغيرها. وكان في هذا الحشد الشعبي أعضاء مجالس بلدية يبحثون عمن يقودهم أخيراً إلى تغيير جوهري في طريقة عملهم، إضافة إلى ناشطين في جمعيات اعتادوا الخمول المكتبي والتعامل بخفة مع البؤس الاجتماعي. وها هي السيارة المجهزة بمكبرات الصوت تجتاح المتظاهرين بالهتاف ضد سوليدير التي تحتل وسط بيروت، تتبعها سيارة أخرى تهتف بأصوات عكارية ضد تحويل عكار إلى مكب نفايات، ويليهما نقابي بيروتي يهتف بمكبر صوت عتيق «مطلبية مطلبية، لا سياسية ولا كيدية»، فيما ترتاح سيارة برجا الهاتفة أبداً ضد الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط على جانب الطريق.

هذا كله لا يوحي بأن حكومة ستسقط غداً أو أن تغييراً هائلاً ستشهده صناديق الاقتراع في حال فتحت على عجل أو أن السياسيين سيهرولون بطائراتهم الخاصة صوب إحدى دول اللجوء؛ تظاهرة السبت كانت أشبه بولادة اتحاد الشغل التونسي وغيره من التجمعات العمالية التي نشأت قبل بضعة أعوام في إسبانيا واليونان التي تواصل المطالبة بحقوق المواطنين بمعزل عن الأجندات السياسية لمختلف الأفرقاء. والرهان الرئيسي بعد السبت يكمن في ارتفاع الأصوات الجريئة أكثر فأكثر داخل الأحزاب السياسية لسؤال الزعماء عن نتائج ما يفعلونه هنا وهناك، وسؤال أنفسهم عن الخيارات المتوافرة أمامهم في حال كان الزعماء «ما طالع بإيدهم شي»، مع العلم بأن تحقيق انتصارات سياسية أمر وارد رغم صعوبته، أما تحقيق أي فريق سياسي انتصاراً اقتصادياً أو إنجازاً فهو أمر مستحيل.