IMLebanon

على عتبة قانون انتخابي جديد لم يُقرّ بعد: فوضى «التحديث»

مصيبتان في هذا البلد منذ وقت طويل.

إحداهما تتمثل في مشاريع التغلّب الفئوي: جماعة يزيّن لها أن الزمن زمنها لممارسة الطاووسية على بقية الجماعات، وجماعة أخرى تنازعها الصدارة ثم تنجح في التغلّب لفترة على طريقتها. وصل تاريخ التغلّب الفئوي في نهاية المطاف الى الحالة التي يشكّلها «حزب الله» اليوم: حزب تعبوي مسلّح، مرتبط بمحور اقليمي تقوده طهران، علّقت جبهته مع اسرائيل في جنوب لبنان منذ احد عشر عاماً، تابع مع ذلك تكديس الاعتدة والاسلحة، وغزا في الداخل اللبناني، ثم انخرط في الحرب السورية الى جانب النظام، وحشر أنفه في مسائل بعيدة عن الجغرافيا اللبنانية، من البحرين الى اليمن، وقبلهما سرية في مصر. كل هذا دون ان يتمكّن من ان يتحوّل من حزب متغلب على الآخرين الى حزب حاكم في لبنان. يشارك في الحكومة مع أخصامه السياسيين بعد ان فشلت تجربة اخذه الحكم بقوة السلاح وتسليمه لحلفائه فحسب. يختلف أخصامه في الظرف الحالي بين من يرى انه من الممكن تحييده نسبياً أو موقتاً للانصراف الى ورش ومشكلات اخرى، مثل الاصلاح الاداري او المالي، او ما شابه ذلك من امور، وبين من يشكك في حظوظ هذا التحييد ومداه، ويعود فيسلّط الضوء الى انه ما ان تهرب من المعضلة المستعصية المتصلة بسلاح «حزب الله» حتى تكتشف ان هذه المعضلة تقف لك في المرصاد في كل الملفات، فتحيلك الى «منزلة الانطلاق»: انه لا يمكن تغييب المشكلة المركزية مع هذا المشروع التغلبي الفئوي المسلّح الذي يأخذ السلم الأهلي كرهينة.

المصيبة الثانية هي في «الهاجس الاصلاحي التحديثي» المحموم طول الوقت. الظن دائماً كما لو انه من العيب، في السياسة، ان يكون المرء تقليدياً، ان تبقى الأطر التقليدية، من العائلة الى الجماعة الدينية الى الانتماء المناطقي المحلي، تفعل فعلها في السياسة، وانه يلزم التطهر منها، والمسارعة الى تقديم المحاولة تلو المحاولة لأجل ذلك، بل اعتبار ان المخرج من الصراع من اجل التغلب بين الجماعات الأهلية والحزبية ذات الطبيعة الطائفية او المذهبية، هو في حل هذه الجماعات نفسها، او التصرف كما لو انها جماعات وهمية لأنها متخيلة، وغير موجودة على الإطلاق ما دامت وهمية، كما لو ان الطائفية وسواس عابر في الرأس، لن يلبث حتى يزول، ما ان يفكر المرء بشكل عقلاني وهادئ ويسكّن انفعالاته بحكمة رواقية.

هذا الهاجس الاصلاحي التحديثي المحموم اصاب ويصيب الجميع تقريباً في هذا البلد منذ تأسيسه. كل طرف مصاب به بطريقة تميزه عن بقية الأطراف. البعض أخذه هذا الهاجس نحو «العلمانية الشاملة» والمعاد المكرر فيها منذ عقود طويلة. البعض الآخر نحو «الغاء الطائفية» والمجادلة العبثية بين تحضير النصوص او تحضير الأرواح (النفوس). نفس الشيء بالنسبة للاصلاح الاداري والمالي للدولة. عبارات طنانة رنانة حولها، تقتبس اولاً بأول من سوق المصطلحات المتداولة في العلم السياسي والاداري، وكثير منها لم يزل بلكنته المترجمة غير المفعلة تداولياً. في الوقت نفسه، الشكوى طول الوقت من ان كل هذه المصطلحات والوصفات لا تنفع لاصلاح، ولا حتى مؤسسة واحدة، في الدولة اللبنانية، فيعود المصابون بالهاجس التحديثي الاصلاحي المحموم طول الوقت لتفسير عجزهم عن التقدم قيد أنملة في عملية الاصلاح والتحديث والعصرنة و»الحوكمة» والشفافية والمواطنية الى مشكلة ثقافية، بل عرقية، كما لو كنا بشراً كغير البشر، و»لا علاج» لنا. ينكشف هذا العصاب «التحديثي» في كل مرة، تفسيراً رجعياً لكل شيء، وكلما جرى تناول جرعة زائدة من دعوات التحديث والاصلاح كلما بدت الخيبة فاضحة أكثر.

ومع انه كان يفترض بحزب، كـ «حزب الله»، يعتنق أيديولوجيا دينية مهدوية، أن يكون أكثر تحوّطاً تجاه هذه الحلقة المفرغة اللبنانية، المتعلقة بالهاجس التحديثي المحموم وغير المنبثق من المقاربة الملموسة للاوضاع اللبنانية الملموسة، فقد غلب على هذا الحزب، ذرائعياً حيناً، واعتقادياً حيناً آخر، صنف من هذا «الهاجس التحديثي التعسفي». بالتأكيد ليس من باب «العلمانية الشاملة»، لكن من باب «التعجيز»، بافتراض ان كل شيء ينبغي ان يكون مباحاً للحزب، على صعيد السلاح والحرب، الى حين تستتب الدولة المستقبلية الحديثة جدا المنشودة، او ما يسميه الحزب «الدولة القوية القادرة».

الاطراف الاخرى لا تزال تلعب فيما بينها ومع الحزب، كذلك الامر، من دون مساءلة هذا الهاجس التحديثي المحموم الذي يمسك بها جميعاً. هاجس يجعل الحياة السياسية تتنقل خبط عشواء من موضوع الى موضوع كل يوم، دون ان تفلح في تحقيق خرق «اصلاحي» في اي من هذه الموضوعات. فوضى تحديث وعصرنة تزيد من صعوبة الاتفاق على قانون انتخاب. فوضى تحديث وعصرنة تجعل الجميع يتسابق الى الكلام عن مكافحة الفساد كما لو ان هناك شيئاً اسمه مكافحة فساد دون تطبيق القانون وتفعيل المؤسسات القضائية والرقابية. كما لو ان مكافحة الفساد تتم بالقيل والقال، والفضح الموسمي.

تغلبية «حزب الله» تستفيد كثيراً من هذا الغرق في الكلام التحديثي الاصلاحي طول الوقت، وكما لو ان كل ما هو قائم في المجتمع او في الدولة اللبنانية يحتاج الى قطيعة معه كي ينهض من جديد، وهذا غير صحيح. لا يمكن الانطلاق الا مما هو قائم. لا يمكن الانطلاق لكتابة قانون انتخابي جديد الا من مسار القوانين السابقة عليه. لا يمكن البدء من نقطة غير موجودة، من نقطة مجردة، وهذا ينطبق على اي قضية، على اي ملف.

يفتقد البلد نزعة سياسية محافظة. لها رؤياها التحديثية لكن متصالحة مع التصور المحافظ للأمور. مع التنبه الى ان المؤسسات السياسية تتطور ببطء، وانها حين تخرب لا يمكن ترميمها الا بعد جهد جهيد، وبأنه لا يمكن التعويل على الانهيارات كما لو انها مخاض حيوي يفضي الى الجديد والجيد طول الوقت، وان الاطر الوسيطة بين الفرد وبين الدولة ليست سيئة في ذاتها، ولا تجدي المكابرة عليها بشكل فظ، ولا بد من استصلاحها طالما هي قابلة للاستصلاح.

في هذا البلد، الكثير من الرجعية والقليل من النزعة المحافظة، سياسياً، مثلما فيه الكثير من دعوات الاصلاح والتحديث، والقليل من الشعور بأن هذه الدعوات كانت مجدية في اي وقت من الأوقات. كل هذا يعطي للتغلب الفئوي أرضية للتمدد. مرة باسم «الميثاقية»، ومرة باسم «التحديث».