IMLebanon

فصول سياسية رافقت مسيرة الحل قبل الحرب على البشر والحجر وبعده !

وقائع الحوار في روما بين الكاردينال الروحي

والكاردينال السياسي حول بيان اللجنة العربية الثلاثية

يروي البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله بطرس صفير ذكرياته السياسية، في أواخر الثمانينيات، ويودعها أسراراً في عهدة الكاتب جوررج عرب، الذي يصف الكاردينال ب حارس الذاكرة ويورد على لسان البطريرك الماروني في تلك الحقبة، مراحل دقيقة من تاريخ لبنان السياسي.

ويعرض الكاردينال وقائع مقابلة جرت في الفاتيكان مع قداسة الحبر الاعظم يوحنا بولس الثاني مع مجموعة من القادة الروحيين في ٢٢ حزيران ١٩٨٩.

ويقول الكاردينال صفير ان الحبر الاعظم استهل حديثه بالقول: كل يوم أصلي من اجل لبنان والسلام فيه، وأستودعه العذراء مريم، ثم بادرنا بالقول: لبنان عزيز علينا جداً، واننا نعمل بكل قوانا على انقاذه، وقد وجهنا رسائل الى أربعة عشر أو ستة عشر رئيس دولة بمن فيهم رئيس سوريا.

وهنا ابتسم وكأنه اراد ان يعني انه عرف ما اثارت رسالته الى رئيس اسرائيل من ضجة لدى مسلمي بيروت زعماً منهم ان الكرسي الرسولي اعترف باسرائيل كدولة.

وتابع قائلاً: لقد شددنا على الرئيس جورج بوش وكأنه قد بدا اكثر تفهما للقضية اللبنانية، خلافا لسلفه ريغن، لا لسوء نية منه، بل لأنه ربما لم يفهم القضية اللبنانية على وجهها الصحيح وان الحرب فيه بين اللبنانيين، ولبنان على الرغم من صغر مساحته له خصائص وميزات يتفرد بها بين الدول وما من احد يمكنه ان يقوم مقامه في العالم.

ويبدو ان الكاتب جورج عرب، أحسن رواية الكاردينال تباعاً، ليشكل من سلسلة مؤلفاته حافظة رائعة المعالم لحكاية تاريخية.

في تلك الحقبة زار الرئيس حسين الحسيني الكاردينال صفير في روما، وطرحت خلال اللقاء بالاضافة الى احتمالات زيارة البطريرك الماروني لسوريا، ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، فرد الحسيني بأن هذا الموضوع سيناقشه مع النواب حين سيجتمعون في لبنان أو خارجه، ثم يلتقون في قصر منصور لانتخاب رئيس مجلس النواب ومكتب المجلس. وتقر المبادئ الاصلاحية، ثم ينتخب رئيس للجمهورية، ويكون مرشح وفاق، ويتعهد في خطاب القسم بالعمل على اجراء الاصلاحات التي سيناقشها مجلس النواب ويقرها وتقرها الحكومة، اي بالطرق الدستورية المألوفة.

وقال الكاردينال صفير للرئيس الحسيني انه يجب تنقية الجو وابعاده عن التوتر، لذلك يجب الامتناع عن التصاريح المثيرة. فقال: نحن بأمرك، والمصلحة الوطنية تقضي بأن لا يصير خلاف بين المسيحيين أنفسهم، ولا بين المسلمين انفسهم، بل المصلحة تقضي بتوحيد جميع اللبنانيين.

واما ما خص اختيار شخص الرئيس فقال: يجب ان نأخذ موافقتك عليه، ولبكركي دور ديني ووطني. وسيبقى الامر سرا بيننا وبينكم، بحيث لا تتكرر تجربة اعطاء لائحة اسماء توافق عليها سوريا. ولا يمكن تجاهل سوريا في انتخاب رئيس لبنان، لأن لبنان مريض ولا يمكنه ان يتعافى الا بمساعدة سوريا، ثم بعد ذلك ينطلق في حالة طبيعية.

وقال الرئيس الحسيني ان صداقة تربطنا بالكتلة الوطنية منذ عهد والده، وهو يرى ان ريمون اده يتمتع بصفات سياسية لا نجدها في سواه، وهو رجل ذو حزم وبعد سياسي، لكن تصريحاته بشأن اخراج السوريين وكل المسلحين والاسرائيليين من لبنان تجعل طروحاته غير قابلة للتحقيق، ولذلك يستحيل انتخابه رئيسا في الظرف الحاضر.

وعندما قلنا في معرض الحديث، ان علينا ان نأخذ رأي جميع الاشخاص والفئات، قال: هناك متطرفون ومنتفعون لا يمكن الاخذ برأيهم، وبالتالي اهمالهم، كحزب الله. واضاف يقول: تلقينا خمس دعوات للذهاب الى ايران، وكنت دائما ارفض. قلنا له مازحين: تساوينا في الرفض، وضحكنا لأنه فهم انني اعني زيارة سوريا.

ويمضي الكاردينال في روايته للكاتب جورج عرب، فيقول: في السادسة والعشرين صباحا ذهبنا الى ساحة سان دامازوا من القصر الرسولي، وذلك بناء على اشارة امين سر البابا.

صعدنا في المصعد الى الطبقة الثالثة حيث جناح قداسته، وأدخلنا مكتبه وانتظرنا الى السابعة الا خمس دقائق، ووضع كل منا البطرشيل في عنقه فوق الجبة، وعلى رأسه الطابية، وجاء امين السر فأدخلنا المعبد الخاص بقداسته، وكان راكعا على مركع في مواجهة المذبح مستغرقا بالصلاة. وبعد قليل، حيا برأسه وهو مطرق، تحية عابرة الى جهتنا وكانت قد اعدت لنا كراسٍ حوله ووراءه قبالة المذبح.

وبعد قليل نهض ليرتدي اثواب التقديس، وكان امين سره البولوني، ومعاونه الآخر وهو كاهن فيتنامي يعاونانه على ارتداء الملابس، هذا يركع، وذلك يضع له الصليب فوق البذلة، وكان قد رفعه عن صدره، ثم يضع له القلنسوة الصغيرة البيضاء.

وارتدى ايضا كاهنان مارونيان هما الخوري جورج قزي من طبرجا والخوري رامز من اللاذقية.

وفيما كان قداسته يرتدي ثياب التقديس، انشدنا انشودة سريانية، وكذلك في اثناء القداس حتى بلغت تقريبا الخمس انشودات.

شكرنا له ما يقوم به في سبيل لبنان. اجاب نخجل ان نتقبل الشكر ولا نستطيع ان نعمل الكثير في سبيل بلدكم. لقد جاءنا وزير خارجية الجزائر وقال انه يطلب مساعدة الكرسي الرسولي لحل المشكلة اللبنانية هو وزملاؤه وزيرا السعودية والمغرب نيابة عن الملكين والرئيس. والجزائر على استعداد لاستضافة اللبنانيين من اجل السياسة ليناقشوا الاصلاحات، وتحدث عن شحن العراق الاسلحة للمسيحيين، قال له الكاردينال: ألا تظن انه يجب قطع الاسلحة عن جميع الافرقاء؟ اجاب: طبعا. وتحدث نيافته عن مقابلة الرئيس بوش لقداسته، وقد حضه قداسته على الاهتمام بلبنان، فوعد خيراً، وأوضح نيافته انه على استعداد للقيام بكل ما يستطيع لمساعدة لبنان.

تقدمنا رويدا من جناح قداسته، وبقينا في المكتب، وقد جعلوا فيه مقاعد. قدم لنا قداسته، بعد الصلاة، الميكرو القائم أمام مقعده. فألقينا كلمة، ثم ادار الميكرو الى صوبه وألقى خطابا جامعا بشإن الكنيسة المارونية ولبنان.

ودامت الحفلة حوالى ساعة واقتصرت على تبادل الخطب بيننا وبين قداسته. وقدمنا له في آخر الحفلة هدية كناية عن قطعة خشب مربعة نقش على وجهها أبانا الذي في السماوات، فتقبلها بالشكر واشرنا الى ان لفظة ابانا يمكن قراءتها على انها لبنان.

وبعد اربعين دقيقة على حفلة تبادل الخطب، قضيناها في قاعة الكونسيستوار، دعينا الى تناول طعام الغداء الى مائدته الخاصة، وأتى هو بذاته بقول : هلموا. دخلنا اولا المعبد حيث قضينا حوالى سبع دقائق، تلا بعدها الصلاة ثم انتقلنا الى غرفة الطعام وهي الى جانب المعبد، ودعانا الى الجلوس امامه، وتوزع اصحاب السيادة كل بحسب مقامه، فجلس الى يمينه المطران ابراهيم حلو بصفته جليس العرش الباباوي، وهو من أسرّ في اذن قداسته بأنه جليس العرش، عندما جلسنا كل في مقامه في المقابلة العامة، وجلس الى يسار قداسته المطران فرنسيس زايك وجلس الى يميني المطران يوحنا شديد، والى يساري المطران شكرالله حرب. ودار الحديث على:

-١- القديس مارون وحياته والزمن الذي عاش فيه ومكانه.

٢- القديس يوحنا مارون أول بطريرك على الموارنة وكيفية انتخابه.

٣- المجمع الخلقيدوني والشهداء الموارنة ال ٣٥٠ واستغاثة الموارنة بالبابا هرميزدا.

واتصل الأستاذ بشارة البون وحدثنا عما هو شائع في لبنان، ومفاده ان الحسيني جاء الى روما ليزورنا بغية افشال المبادرة العربية، وأكد له ان الحسيني يهمّه تسهيل المبادرة العربية.

وحصل اتصال بين مندوب لبنان في الأمم المتحدة ادوار صوما والكاردينال صفير مفاده، ان مدير منظمة الأغذية العام جاء ليقول لنا أن خافيير دي كويليار، أمين عام الأمم المتحدة أظهر له رغبة في لقائه في جنيف، وهو سيراه وسألنا عما اذا كان لنا من أمر نريد أن نبلّغه اياه، فقلنا له: اذا تمكّن من اقناع الدول المعنية بالضغط على اسرائيل وسوريا بمغادرة لبنان مع جيوشهما، فيكون قد قدّم أكبر خدمة للبنانيين ومكّنهم من العيش بسلام.

ووصل الى روما السيد روبير فرنجيه الذي تمنى ان يمارس الحبر الأعظم ضغوطا على اسرائيل لتنسحب من لبنان، وهو مؤهل لهذا الدور.

– واتصل بالبطريرك الماروني فاروق أبو اللمع واستطلعه ما دار بيننا وبين الرئيس الحسيني من محادثات، فأجاب: لم يتسرّب اليه شيء.

واتصل به سفير فرنسا لدى الفاتيكان جان برنار ريمون، بناء على طلب وزارة خارجية فرنسا، ليستطلعه أيضا مضمون الحديث الذي دار بيننا وبين الحسيني. فأوجزنا له المضمون فكتبه كما أمليناه عليه بالفرنسية.

ويبدو أن وليد جنبلاط القادم من ستوكهولم حيث انتخب نائب رئيس للاشتراكية الدولية سيسافر على متن الطائرة التي تقلنّا الى لبنان.

ويقول الكاردينال صفير انه كان على متن الطائرة وليد جنبلاط الذي كنّا صعدنا الى الطائرة قبله، واتخذنا مقعداً والى جانبنا المطران أبي نادر، ثم دخل وليد جنبلاط واتخذ مقعداً له وراءنا، وكان يفصل بيننا وبينه مقعد واحد. ولما دخل قلنا أهلاً وسهلاً وهممنا بالنهوض للتحية، لكنه قال صباح الخير، ومرّ دون أن يتوقف. وبعد مقدار نصف ساعة، ذهب الى المرحاض، وهو عائد مدّ يده فسلّمنا عليه، ولم نكن على انتباه انه يريد التسليم علينا حتى نبّهنا الى ذلك المطران أبو نادر، لأننا كنا مستغرقين في القراءة. وقلنا لوليد: كنا نريد أن نهنّئكم بالمنصب الجديد. قال ما هو؟ قلنا: اعادة انتخابكم نائبا لرئيس الأحزاب الاشتراكية العالمية.

استغرقت الرحلة من روما الى لارنكا ثلاث ساعات ونصف الساعة، وكان على أرض المطار في لارنكا ينتظرنا سفير لبنان زيدان زيدان، والمونسنيور يوحنا فوراداريس وسائر الكهنة والراهبات وبعض الموارنة. وما أن نزلنا من الطائرة حتى توجهنا توّاً الى الطوافة وكانت في انتظارنا، فصعدناها، غير أننا تركنا وراءنا حقائب السفر التي يستغرق انزالها من الطائرة بعض الوقت، على ان يتولى المونسنيور أورفانو الاهتمام بحفظها، ريثما تنقلها في اليوم التالي الطوّافة.

نزلت الطوافة في مطار أدما لتعذر هبوطها في ساحة بكركي بعد أن تضاءل ضوء النهار. وكان الأستاذ جورج سماحه، محافظ بيروت ونائبانا المطرانان أبو جوده والراعي والمطرانان فرح وسلامه والآباء العامون في استقبالنا في أدما، وانتقلنا بالسيارة البطريركية الى بكركي حيث كان في انتظارنا عدد من المؤمنين. فارتدينا الملابس الحبريّة ودخلنا الكنيسة لأداء الشكر، وألقينا كلمة مكتوبة شكرنا فيها الله على حفظنا ومرافقينا بالسلامة وألمحنا الى ما قمنا به من نشاطات في روما.

ويتابع البطريرك صفير، ما حصل معه بعد عودته الى بكركي، فأورد ان الرئيس رفيق الحريري طلب منه التوسط لحمل النواب على القبول بالاجتماع خارج لبنان، لأن الوزراء العرب لن يأتوا الى لبنان، فقلنا له ان هناك بعض التحفظ حول الموضوع.

وطلبنا من الأمين العام لوزارة الخارجية فاروق أبو اللمع، ان ينقل الى العماد عون ما جرى بين الرئيس الحسيني والبطريرك الماروني.

وتابع: كان عون قد اتصل هاتفيا ببكركي قبل ان نصل اليها. ولما وصلنا اليها اتصلنا به، وهنّأنا بسلامة العودة.

عقد في بكركي اجتماع بين الكاردينال صفير والسفير الفرنسي في لبنان رينه ألا الذي يقول صفير انه أراد ان يقف على ما حدث من مباحثات مع الرئيس الحسيني في روما.

ويروي البطريرك الآتي:

بدا كأنه يريد أن يطلع على ما دار بيننا وبين الرئيس الحسيني في روما، فأخبرناه عن طروحاته. وسأل عما اذا كان جاء موفدا من سوريا. فأجبناه: لم نشعر بذلك. لكنه قال لنا أن الحسيني سأله: لماذا لا تقيم فرنسا علاقة جيّدة مع سوريا كعلاقتها مع لبنان؟ فقال له: نحن على استعداد، لكن ما بيننا وبين لبنان غير ما بيننا وبين سوريا، وقد قال عبدالحليم خدام ان ليس لفرنسا واجبات في لبنان. وهو يقول ما يحتمل التأويل. من الناحية القانونية لقد تركت فرنسا لبنان والانتداب انتهى. انما من الناحية التاريخية والصداقة القائمة عبر التاريخ بين فرنسا ولبنان، فلفرنسا علاقة خاصة وعليها واجبات تجاه لبنان. ودامت الزيارة ساعة. وكان السفير عند الوزير بري انفتح الباب فجأة وأطلّ مسلح وتبعه غازي كنعان مدير المخابرات السوري من دون استئذان، فنهض السفير الفرنسي وانصرف.

وحضر الى بكركي الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فهنّأنا بالعودة. وأخبرنا ان الرئيس الحسيني قال له أنه كان مسروراً وممتناً من اللقاء الذي جرى بيننا وبينه في روما، فشكرنا له اتصاله. وأكد على ما قاله من حيث وجوب التعاون لانقاذ لبنان.

ويؤكد البرلماني اللبناني المعروف الدكتور ألبير مخيبر، بأن معظم النواب لا يوافقون على الاجتماع في الوقت الراهن في بكركي، لأن لهم رأياً واضحاً بأن سوريا تريد ذلك للحرتقة.

وان مزاعم سوريا بأن لبنان وسيادته وحدوده المعترف بها دولياً غير قانونية، وانه يجب ان تكفّ عن القول بأن لبنان صنيعة الاستعمار، وهو غلطة تاريخية.

يقول الكاردينال صفير ان اللجنة العربية الثلاثية وجّهت كتاباً قاسي اللهجة الى الرئيس حافظ الأسد. لذلك جرى الايعاز الى اعلان فتح المعابر مع الابقاء على الحصار البرّي. ثم سألنا الأخضر الابراهيمي عن رأينا في الأمر فقلنا له:

١ – كلما تباطأ الحل تعقّد. لبنان لا يمكنه أن ينتظر أكثر مما انتظر والناس يهاجرون ولن يبقى إلاّ الحجر بعد أن يكون قد هاجر البشر. فهل هذا المراد؟

٢ – آمال كبيرة معلّقة على اللجنة، وأعضاؤها أركان جامعة الدول العربية وهي تحظى بدعم دولي، فاذا أخفقت أضرّ الاخفاق بها وبالجامعة مثلما يكون قد أضرّ بلبنان.

٣ – للبنان الحق على أشقائه أعضاء الجامعة في أن يلقى منهم المساعدة ليحافظ على استقلاله وسيادته وسلامة حدوده.

٤ – ثم أوجزنا بناء على طلبه آلية الرئيس الحسيني لاجراء الانتخابات والاصلاحات والانسحابات.