IMLebanon

أثمان السياسة

ماذا لو كان يشبه نصوص دستوره، وطناً سيداً حراً مستقلاً ولجميع أبنائه؟ ماذا لو كان «جمهورية ديموقراطية برلمانية» تؤمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل؟ ماذا لو كان شعبه مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات؟ ماذا لو كان الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، فلا تختنق بيروت ولا تكتظ بنازحي الأرياف المُيَتمة، ولا يتحوّل البلد إلى رصيف لتصدير شبانه وشاباته؟

لبنان هذا، يشبه شعوبه. هذا ما صنعته أيدي اللبنانيين. هذه هي الأثمان التي دُفعت، ليبلغ لبنان حافة الهاوية، أو حافة النزاع المرحَّل إلى الخارج، وليصل إلى معايشة الخوف من الأسوأ، وفقدان الأمل.

لم يحدث ذلك السقوط تلقائياً ولا كان صدفة ولا هو قدر.

في الطائف، وفيما الحرب مشتعلة، اتفق من اجتمع هناك، من نواب وممثلي الطوائف والمذاهب، على خريطة طريق نصت على مرحلة انتقالية، «تلغى فيها قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة».

واتفق على أن يبدأ العمل وفق هذه الخريطة بعد أول انتخابات (جرت في العام 1992) على قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ويصار بعدها إلى إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، على أن ينشأ مجلس شيوخ يمثل العائلات الروحية.

فشل اللبنانيون في رسم خطوة واحدة في خريطة الطريق، التي من المفترض فيها الانتقال من «مزرعة الطوائف» ودويلاتها، إلى دولة الوطن والمواطن.

لم يسأل أحد عن هذا البند في اتفاق الطائف. تخلوا عنه. تقاتلوا ضده. نسيه وتناساه الجميع. استبسلوا في إغراق لبنان في الحقارات المذهبية والطائفية.

ولقد دفع اللبنانيون غالياً ثمن هذه السياسات والخيارات، والحساب مفتوح وبعضه من دم وأكثره من يأس.

ليس صدفة ما حدث ولا هو قدر.

طبيعة الاجتماع اللبناني أنه تلفيقي. الأرض واحدة، والشعب ليس واحداً. هذا الشعب، وريث لحظة التأسيس للكيان. هو ابن طبيعي لزواج الإكراه، وهو مصداق تطبيق الأعراف والميثاق، وليس مصداق النصوص الدستورية. البديل عن المواطنة، هو المواطفة. اللبناني، وطنه طائفته أو مذهبه، ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى السياسي. وما دخل الدين سياسة إلا أفسدها. اللبنانيون أبناء شرعيون لهذه الطبيعة الاجتماعية. وساهم تشكل النظام الطائفي وتجذره واستعصاؤه واستشراؤه وتوزعه منافع وحصصاً على الأفرقاء كلهم، على وضع ترسيمة راسخة للسلوك السياسي، بحيث باتت السياسة حكراً على متنفذي الطوائف، عملاً وقولاً، في الصغائر والكبائر. من رعاية الأولاد والإرث، إلى المشاركة في حروب المشرق من اليمن إلى البحرين إلى العراق والشام وهلم جراً.

لدينا فائض حرية. ولكن ماءها لا يصب في طواحين الديموقراطية. هي حرية بلا ثمرة. جعجعة بلا طحين.

من فضائل الطائفية إذاً، بحبوحة الحرية. ومن فضائل الحرية نظام تعليم حر، غير مقيد بفكر أو عقيدة. في هذا المناخ، عرف اللبناني عن كثب النظم الديموقراطية الفاضلة، أتاح له التعليم والاختصاص والانفتاح على التيارات الفكرية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، على أفكار ومناهج وبرامج نقلت مجتمعات من حالة إلى أحوال جديدة. عرف تداول السلطة، وحرية الفكر، واستقلال القضاء، ومنع الدين من التدخل في السياسة. اللبناني خزان معارف ومخزن معلومات. انما، بين ما يعرفه وبين ما يمارسه، بون شاسع. يعرف، انه كائن سياسي، وأن من حقه ومن واجبه ممارسة هذا الحق. هو يستقيل من الفعل، ولا يكف عن محاكمة القول. استقالة اللبناني من السياسة كفعل، حصلت من دون ضغط أو إكراه. أغراه الانتماء السهل إلى العائلة والطائفة والمذهب. بانتمائه هذا، لم يعد كائناً سياسياً، صار تابعاً سياسياً لا كينونة له، ولا حق له بالاختيار أو النقد أو المساءلة.

الثمن الذي يدفعه لبنان. في جزء منه، هو استحقاق طبيعي. هذا الاجتماع اللبناني الذي نشأ قسرياً، لم ينجح نظامه في توحيده، ولا نجحت الديموقراطية التوافقية في تأمين بنية سليمة وسلمية في تكوين خياراته، ولا وحدت نظرتة إلى ذاته ولا إلى محيطه. ظل شتاتاً موزعاً في الداخل، وانتشاراً ولائياً في الخارج.

كل هذا بسبب إعدام البدائل، يقال خطأ: «انعدام البدائل». محاولات الإصلاح والتغيير، من خارج النظام أو من داخله (تجربة فؤاد شهاب) انتهت إلى فشل أورث بأساً لدى النخب والأجيال المتحررة من السلف الصالح والطالح. مشروع بناء الدولة أوكل في الداخل، أي داخل النظام وبيئته، إلى من يهدمها. محاولة فؤاد شهاب، الرئيس القوي، اصطدمت لمدة عامين بالسؤال: من أين نبدأ ببناء الدولة؟ أببناء الوطن من فوق أم ببناء المواطن أولاً. لم يتيسّر له الجواب. من فوق، الموانع طاغية، طبقة سياسية طائفية زبائنية قابضة على مفاصل الدولة ومطفئة الروح فيها. هذه الطبقة رفضت التغيير وحاولت تفريغ المؤسسات المدنية عبر القبض عليها وفرض المحاصصة وعملة المحسوبية. من دون منطق الزبائنية، تفقد الزعامات زبائنها من عامة الناس وعلية القوم.

أما من خارج النظام، فالمحاولات كانت غير متحيزة. كلام حزبي فضفاض، عن العلمنة والديموقراطية وقوانين الانتخاب وضرورة التغيير، عبر قوى حزبية أو طبقية أو تحالف قوى، كلها كانت بثقل الغبار، لا قائمة لها ولا قيامة… أحزاب عقائدية من ألوان فكرية مختلفة، فضلت أن تعيش على فتات النظام من ان تدافع عما تعتبره تغييراً. أحزاب التغيير، غيَّرها النظام اللبناني. جعلها خادمة لقوى طوائفية فظة في ارتكاباتها، وفذة جداً في قدرتها على تأبيد وضعها كدويلات داخل اللادولة اللبنانية.

وفي هذا السياق من الممارسة السياسية، تغيب الديموقراطية، تتسيّب الحرية، تتشظى الديموغرافيا، تتداعى المؤسسات، ينعدم الوطن، تنهار القيم، وتتسيّد الغوغائية ويتعاظم الاتهام، ويصار إلى تحميل المسؤوليات في كل هذا الخراب إلى الخصوم فقط. فخراب لبنان، تحمَّل لبندقية المقاومة، وتعاظم الديون إلى حدود الـ70 مليار يُحمَّل لفريق دون الآخر، علماً ان الفريقين شريكان في فائض الاستدانة واستفحال شهوة استدعائه وتأمين أمكنة الإنفاق، ولو من دون إنجاز. وهكذا دواليك. آخرها تهمة التعطيل التي تصيب الفريقين.

لكل هذه الأسباب، نحن اللبنانيين، قبل الآخرين، مسؤولون. والأثمان التي ندفعها، دين مستحق علينا. والمحصلة، هذا اللبنان الذي وصفته في المقدمة، والآيل إلى مزيد من التفكك.

هل من أفق ما؟

لعلني مصاب بالعمى، فلا أرى أفقاً، ولا بصيص ضوء، ليتني على خطأ.