IMLebanon

حرّاس القاع يروون تفاصيل ليل «الإثنين الأسود»

لبلدة القاع حكاية أخرى مع الإرهاب، فهذه الأرض الخصبة والمغرية لهم، هي بوابة لبنان، إذا سقطت سقط البلد. لكن ما لم يعلمه هؤلاء عندما تجرّأوا على الدوس في ترابها، أنّ لهذه البلدة حراساً لا ينعسون، يتركون ممتلكات الدنيا كلها ويركضون لفداء القاع بأرواحهم. في وقت السلم هم محامون، أطباء، مهندسون، وأصحاب مهن حرّة، أما وقت الخطر فمحاربون.

كان وقعُ يوم الإثنين مرّاً على لبنان كله، فالجميع تابع منذ ساعات الصباح الأولى قصة أبطالٍ رفضوا الاستسلام، أبطال امتنعوا عن الهروب، أبطال قرّروا قتلَ الموت بما توافر لديهم… هم القاعيون الذين اقترنت أسماؤهم على مدى الأعوام بالعنفوان والاندفاع لحماية الأرض.

شبان يتحدّثون

من بيروت توافد القاعيّون الى بلدتهم للدفاع عنها بعدما استفاقوا على هول الأحداث الصباحية فيها، وبالفعل لم يخذلهم الإرهابيون، فأتوا بكلّ وقاحة للإنتحار بينهم.

وقد لعب القدر، كما في كلّ مرة، دوراً في حماية الشبان. ويروي المحامي جورج بيطار الذي كان موجوداً على الأرض لـ«الجمهورية»، أنّ «الخبر انتشر بسرعة بعد أحداث الصباح، وعندها بدأنا بالتوافد الى القاع، وأصبح هناك عددٌ هائل من الشبان، والعملية كانت تُدار بشكلٍ مدروس»، ويضيف: «شاركنا في التعازي وتابعنا التحقيقات الأوّلية وما إذا كانت القاع مستهدَفة أم لا، وتجوّلنا بعد ذلك في البلدة وتحدثنا مع الناس الذين كانوا يحتاجون الدعم، وعند المساء كان شبابنا أمام كنيسة مار الياس، فوصل أحد الإرهابيين وحاول تفجيرَ حزامه، لكنّه لم ينفجر، فرمى قنبلة يدوية نحو الشباب ما دفعهم للإنبطاح أرضاً، وعندها فجّر نفسه».

ويشير بيطار الى أنّ «العناية الإلهية أنقذت الشباب، فلو أنهم لم ينبطحوا لكانوا استُشهدوا، أما الإرهابيون فتتالوا حيث أتى إرهابيٌّ آخر في اتجاه الشباب وسارع أحدهم لإطلاق النار عليه فانفجر وحده، فيما دخل الثالث بستاناً وركض الرابع قرب أحد البيوت فلقيا المصير نفسه».

وعن السبب الذي دفعه لترك عمله في بيروت والتوجّه إلى «الضيعة» للمحاربة، يقول: «الواجب نادانا، فنحن لم نحمِ القاع فحسب، بل حمينا لبنان بأسره عندما أغلقنا بوابته في وجه الإرهاب، فإذا تخاذل كلّ منا اخترب البلد».

ويضيف: «ما في إم قاعية عارضت إبنها في الدفاع عن أرضه»، مؤكداً «أننا لم نفكر أننا ندافع عن أنفسنا، بل عن شعبنا ومجتمعنا، وهذا ما تؤمن به أمهاتنا أيضاً».

بإمرة الوطن

يُجمع أهالي القاع على أنهم تحت إمرة الجيش، وقد نكروا الشائعات التي اتهمتهم بالعودة الى عصر الميليشيات، مؤكدين أنهم سعوا لمساعدة الجيش قدر المستطاع.

وعلى غرار جميع اللبنانيين، خاض أهالي القاع حروباً دفاعية هائلة عن بلدهم، إلّا أنّ ما عاشوه أمس الأول لم يكن حرب جبهات أو حرباً تقليدية، بل إنّ إرهابيين أتوا إليهم ليموتوا، وهم تصدّوا لهم بأرواحهم عبر حماية مداخل البلدة وزواريبها.

في أقل من 24 ساعة، فجّر 8 انتحاريين أنفسهم موقعين 5 شهداء و20 جريحاً، وهو ما يعتبره أهالي البلدة أعجوبة بحدّ ذاتها، فهم مؤمنون يُرجعون نتيجة خلاصهم للعناية الإلهية التي لطالما رافقتهم في حروبهم ضدّ مغتصبي الأرض، فهذه المحصّلة من الضحايا لهذا العدد من الانتحاريين تُسجّل للمرة الاولى في التاريخ، وصمود هذا الشعب بإمكاناته المتواضعة وقدرته على هزمهم هو إنجازٌ أيضاً.

أما الشبان الذين لم يعرفوا الحرب سابقاً، فكان لهم نصيبٌ بحمل السلاح أيضاً، فإيلي التوم الشاب المتخرّج حديثاً، لم يخَف من الموت بل واجهه بكلّ ما أوتي من قوة، ويروي لـ«الجمهورية» أنّ «الليلة كانت عادية حتى الساعة العاشرة مساءً تقريباً، عندما سمعنا الإنفجار الأوّل، وعلى رغم أننا اتخذنا كلّ الاحتياطات وحملنا السلاح، فإننا ارتبكنا بعض الشيء متسائلين ما إذا أُصيب أحد، وما إن هرعنا للمساعدة حتى سمعنا صوت الانفجار الثاني»، ويكمل: «بعدما توجّهنا الى الطرقات قُطع التيار الكهربائي وتحوّلت القاع الى مدينة أشباح، عندها أصبنا بحال ضياع خصوصاً أنّ الإرهابيين تقاطروا من اتجاهاتٍ مختلفة».

ويوضح التوم «أننا بدأنا بالتوافد الى القاع منذ ساعات الصباح الأولى، وأنا مثلاً ما إن وصلت الى بيروت حتى علمت بما حدث، فعدتُ الى القاع في الساعة نفسها».

«نساءُ القاع أخوات رجال»، هكذا يصف التوم حمل النساء للأسلحة، معتبراً «أنهنّ أيقنّ أنّ الصريخ والبكاء لن يفيدا ولا منفذ إلّا بحمل السلاح وإعطاء المعنويات لرجالهم لحضّهم على الاستمرار»، مؤكداً «أننا سعينا لمساعدة الجيش لا أخذ مكانه، فنحن مؤمنون بهذه المؤسسة وتحت أمرتها».

وفي وقتٍ يرجّح البعض أن يكون الانتحاريون قد أتوا من مكان بعيد خصوصاً بعدما تبيّن أنّ الحقيبة التي كان يحملها أحدهم احتوت على طعام ومياه وليس أسلحة، يشير مصدر عسكري لـ«الجمهورية» الى أنّ «الجيش اتّخذ كلّ الاجراءات والتدابير اللازمة لحماية القرى الحدودية وتأمين سلامة مواطنيها، وهو يتحمّل كامل مسؤولية الأمن»، موضحاً أنّ «الإختراق الذي حصل قد يحصل في أيّ مكان، والجيش يتفهّم ردة فعل المواطنين لكنّه يضمن سلامة الجميع، وعند الحاجة للمساعدة لن يوفّر الناس، ولذلك أصدر بياناً رسمياً طلب فيه انسحاب جميع المسلّحين من الطرقات».

اليوم كان دورُ القاع، أما غداً فلا أحد يعلم على مَن ستقع القرعة، لكنّ الخيرَ الوحيد ممّا حصل كان المثال الذي أعطاه أبناء القاع للعالم كله، فهم كانوا خير مدافعين عن أرضهم ومتفانين لإخوانهم، وهم لم يَسعوا إلى حمل السلاح أو إلى المحاربة على أراضي الغريب، بل إنّ الظروف فرضت عليهم إما استقبال الإرهابيين لممارسة عقائدهم الدميمة أو حماية أرضهم وعرضهم، فاختاروا الأصعب، وهنيئاً لهم بهذا الخيار.