IMLebanon

أيها العلمانيون… إنها معركة وجودكم!

في معرض نقد «الكسل النضالي»، يشار إلى ما يعرف بـ»انفكاك القول عن قائله». بمعنى أنَّ الكلام الصادر عن مطالب بالتغيير يبقى في حالة الصوت فقط، الأمر الذي يجعل الجهة المطالبة بالتغيير فاقدة لقوة الضغط الكافية لتنفيذ المطالب.

يقدم، في هذا السياق، مثل العمال المياومين في مرافق كبرى. يقال عن هؤلاء إنهم يستيقظون صباحاً على ضجيج البيت والأولاد والمطالب البديهية من العائلة. يكتفي العامل أو الموظف، بالاستماع، قبل أن يضع تحت إبطه كيساً من النايلون فيه طعامه للنهار، ثم يخرج مسرعاً إلى حيث ينتظره رفاقه قبل التوجه إلى العمل. في الطريق، يمضي وقته نائماً حالماً بغد أفضل. وعندما يصل إلى مركز العمل، يتحول في لحظة إلى جزء من الماكينة التي لا ترحم. في خلال فرصة الغداء، يعاود الكلام الانتقادي لرؤسائه أو أصحاب العمل، قبل أن يعود مجدداً إلى العمل المضني، حتى يحين موعد العودة إلى البيت. فيرتفع الصوت وسقف الكلام، ومن يسمعه، يتحسب لليوم التالي. لكن الرجل يعود إلى منزله، ملقياً جسده وتعبه عند أقرب كنبة، رافضاً سماع الأسئلة ذاتها. يمرّ ذلك المساء مع بعض صراخ وغضب، قبل أن يستيقظ مع طلوع الشمس ويكرر يومه من جديد.

في حالات كثيرة، يحصل أن ينتفض بعض العمال أو الموظفين أو المستخدمين، ويكون بينهم من قرر، عن وعي مصحوب بانفعال المقهور، أن يتحمل المخاطرة، وبقدر ما ينجح في استقطاب زملائه إلى فكرة الاعتراض، يحقق بعض المطالب، حتى لو انتهى الأمر بطرده هو من عمله. لكن النتيجة تكون واضحة، في أنَّ التغيير إنما يحتاج إلى مبادرة عملانية، فيها تعب وعرق وربما دماء. ولا تكون فقط بالكلام والصراخ.

في لبنان، اليوم، فئة كبيرة ترفض النظام الطائفي القائم. يتشارك أفرادها برفض التمييز الطائفي والمناطقي والاجتماعي والجندري، ويتشاركون، أيضاً، في رفض إدراج هويات دينية ومذهبية إلى جانب أسمائهم، بعد أن قررت سلطات عائلية ودينية ورسمية إضافتها عند ولادتهم. ويتشارك هؤلاء في رفض آلية اختيار ممثليهم إلى السلطة على أساس طائفي وديني، ويرفضون، معاً، الحركات الانفصالية الدينية والثقافية، التي تترجم في التعليم والاقتصاد والاجتماع. ويتشاركون في حاجتهم إلى نظام، يتيح لهم التعريف عن أنفسهم، خارج القيد الطائفي، وأن يكون لهم الحق في وضع خانة «العلماني» إلى جانب أسمائهم في كل الأوراق الثبوتية. ويتشاركون في كونهم يريدون إيصال ممثلين عنهم من دون حيازتهم ورقة إثبات من مراجع دينية أو طائفية أو مذهبية. ويتشاركون في مقاومة فئة تتحكم برقاب البلاد والعباد باسم الطائفة والدين والمذهب.

هذه الفئة، سبق لقسم كبير جداً من أفرادها، أن عبروا، أو لا يزالون، في تجارب ضمن أطر حزبية أو اجتماعية أو أهلية عابرة للطوائف والمناطق. وانتموا إلى مشاريع بحجم البلاد، من نضالات مطلبية من أجل تحسين التعليم الرسمي، وتحصيل حقوق الضمان الاجتماعي، وتفعيل العمل البلدي، والدفاع في وجه الاحتلال، وأتوا من كل حدب وصوب، دون حيازة أوراق ثبوتية طائفية تجعلهم يقفون عند حدود هذه المنطقة أو تلك. هذه الفئة، تشتبك في ما بينها حول عناوين كثيرة، في السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والذوق والفنون والملبس والمشرب والسكن. وهي تتصارع كثيراً في ما بينها، لكنها تقف متفرجة أمام المعركة الوجودية التي تخاض ضدها.

ماذا يفعل هؤلاء اليوم؟

في لبنان، اليوم، من يطرح علينا قانوناً للانتخابات النيابية، يعود إلى رسم إطار قانوني للتمييز الطائفي والديني بين المواطنين. إنه القانون الذي لا يحرم هؤلاء التمثيل خارج القيد الطائفي فحسب، بل يخيرهم بين الصمت، وبين أن ينتظموا في النظام الطائفي المرصوص، وأن يصوتوا بحسب ما كتب إلى جانب أسمائهم على لوائح الشطب، وأن يحصروا تصويتهم بالمرشحين المنتمين إلى الدين نفسه…

في لبنان، اليوم، من يريد أن يقول لنا إنَّ الحرب الأهلية لم تنته، وإنَّ الصراع أساسه طائفي، وإنَّ الفيدرالية هي الحل، وتبدأ بقانون انتخاب يعزل اللبنانيين بعضهم عن بعض، ويعزز العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية، ثم يدفع إلى فرز داخل كل مجموعة، طبقياً واجتماعياً تارة، والتصاقاً بدارة الزعيم تارة أخرى. وهو قانون يريد أن يرضي أقليات طائفية، تتحالف في ما بينها لتشكل أغلبية قاتلة لكل تطور وكل استقلال وكل حرية.

فماذا يفعل العلمانيون؟

بعضهم يفاوض من يتولون إدارة الدولة على حصص جزئية من هنا أو هناك، وبعضهم يلتحق بالركب الطائفي، فيعيد تنظيم صفوفه على أساس طائفي ومذهبي ومناطقي؟ لكن غالبية منهم، تتصرف وكأن مخلصاً سياتي من الفضاء كي يعطيهم حقهم المسلوب جيلاً بعد جيل؟

ما الذي يمنع هؤلاء من تجاوز أمراضهم النفسية، وخلافاتهم التنظيمية الضيقة، وحتى فوارقهم السياسية والاجتماعية؟ ما الذي يمنعهم من الاجتماع مرة واحدة، في ساحة تعطي الإشارة إلى من بيده القرار، بأنه ممنوع تجاوزهم، وتفهم الحاكم، أياً كان اسمه، بأنّ هناك من يريد مقاومة مشروع إعادة إنتاج الحرب الأهلية بكل القوة المتاحة؟

ما الذي يمنع منظمات وهيئات مدنية أو حقوقية أو مهنية، أو أحزاباً مثل الشيوعيين والقوميين والناصريين والمستقلين، من التجمع معاً، لمرة واحدة، خلف شعار يقول بالصوت المرفوع، والقبضة الجاهزة لمواجهة قاسية، إنه ممنوع إقرار قانون لدفن لبنان في حدائق الطائفيين البغضاء؟

هل تحتاجون إلى من يوجه إليكم دعوة لاجتماع؟ أليس بينكم خبز وملح وكتاب ومؤسسة وشارع ونضال ومدرسة وجامعة ومقهى وحانة، أم أنكم تكتفون بالاجتماع في غرف ضيقة، مغلقة، تمضون فيها الساعات تقيمون وتبحثون في أصل الجن والملائكة، ثم تخرجون ببيانات تقول: «المطلوب، المطلوب… المطلوب»!!؟

أيها العلمانيون المنتشرون في كل الأمكنة وكل العناوين، ألا تخجلون من أنفسكم، وأنتم لا تبذلون نقطة عرق، أو نقطة دم، لحماية وجودكم المهدد من أساسه؟ ألا تخجلون من أنفسكم، وأنتم تمارسون الانفكاك عن كل أقوالكم، ثم ترمون المسؤولية على الشارع الذي يسير خلف هذه الزعامات… هل وجدكم الناس في الشارع حتى يسيروا خلف غيركم؟ هل يشعر أهل السلطة بكم، تهددون مصالحهم، أو تهزون عروشهم حتى يخشوكم، فلا يمضوا في خطة إعدامكم؟

وحتى لا يتحول النقد إلى نق، من المفيد التوجه، مباشرة، إلى قيادات العلمانية وكوادرها ومناصريها ومعتنقيها، في الأحزاب الشيوعية والقومية والناصرية وفي المجموعات الجديدة، التي تتخذ طابعاً مدنياً أو أهلياً، أو أسماء أخرى، لأن يقال لهم: اخرجوا أنتم عن صمتكم، واذهبوا وامنعوا بالقوة تشريع قوانين تلغي وجودكم، وإذا لم يستمع الحاكم لكم، فاستعدوا لمنع العمل بهذه القوانين، ولو تطلب ذلك العنف، الذي لا يخشاه إلا الحاكم القاهر!