IMLebanon

انعكاسات خطيرة ستترتب على عناد الدوحة

لا مناص من تطويق تدهور الأزمة مع قطر لأن تفاقمها سيؤدي إلى استنزاف قطر بكلفة غالية، أولاً لقطر وأهلها وكذلك لمنطقة الخليج وللعمال العرب والآسيويين فيها. ستترتب على عناد الدوحة انعكاسات خطيرة على النزاعات في المنطقة العربية بإفرازات على أهلها وعلى أوروبا وآسيا بتدفق اللاجئين– وربما الإرهابيين أيضاً– عبر البوابة الليبية والسورية بصورة خاصة.

تؤكد تطورات هذا الأسبوع أن تطويق الأزمة ليس كافياً وأن تغيير سلوك قطر بات مطلباً ثابتاً لكل من السعودية والإمارات ودول عربية أخرى. العلاقات مع إيران وتشعباتها تتربع في صدارة أولويات التغيير المطلوب في سلوك قطر، وكذلك تبني الدوحة لمشروع «الإخوان المسلمين». هذا يضع الدوحة أمام قرارات مصيرية عليها اتخاذها بوضوح وبضمانات وبلا مساحة للتأويل أو للالتباس، لأن مصلحة قطر تقتضي ترطيب البيانات وإثبات مواقف أكثر إصراراً على الاستقرار في الخليج والمنطقة العربية. تتطلب دحض الانطباع الذي ساد طويلاً بأن قطر تلعب أدواراً خفيّة في الشرق الأوسط وتخريبية في أكثر من مكان لأن هذه سمعة ليست في مصلحة الدوحة.

تجنباً للوقوع في فخ اصطياد العلاقات الخليجية– الخليجية، من الضروري للجميع التأني والتنبّه لعواقب السماح لهذه الأزمة بأن تتطوّر إلى قطيعة دائمة لأن تداعيات ذلك مؤذية جداً للأولويات الخليجية الاقتصادية والتنموية والسياسية والأمنية إلى جانب ضررها البالغ على شعوب ودول النزاعات. ثم أن الولايات المتحدة تقع في خضم التطورات بمصالحها الحيوية، لذلك تحض الإدارة على رأب الصدع ولمّ الشمل على المدى البعيد فيما يقوم الرئيس ترامب بتغريدات هدفها إبلاغ الرسالة الأولية إلى جميع المعنيين وعنوانها أن الأولوية هي لمواجهة الإرهاب ومصادر تمويله وأن القواعد الأميركية في منطقة الخليج بالغة الأهمية لكن مواقعها متوافرة في أكثر من مكان، إذا برزت الحاجة.

وساطة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح تشكل مدخلاً مهماً إلى الحكمة على أيدي أمير مخضرم في العلاقات الخليجية والعربية كلفته القمة الخليجية في المنامة بالحوار مع إيران تحت شرط عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية واحترام قواعد الجيرة. هدف تحرك الشيخ صباح إلى الرياض ثم إلى دبي للقاء القيادة الإماراتية ثم إلى الدوحة هو خلق جو يحول دون ازدياد الأمور تعقيداً وتدهوراً. لعل استئناف اللقاءات مستبعد في هذه الفترة، إنما السعي هو وراء ضبط الانفلات في العلاقات الخليجية.

عُمان تعمل، كعادتها، وراء الكواليس وليس واضحاً ماذا كانت رسالة وزير الخارجية يوسف بن علوي إلى الدوحة أثناء الزيارة، قال إنها خاصة، أتت في اليوم التالي لإعلان السعودية والإمارات والبحرين إلى جانب مصر وليبيا واليمن قطع العلاقات مع قطر. فائدة دخول عُمان على خط الأزمة تكمن حصرياً في اتخاذها قرار تهدئة الأجواء في الدوحة وحض القيادة القطرية على التفكير استراتيجياً بعيداً عن الاعتباطية العاطفية لأن العواقب ستنال من مصالح قطر قبل غيرها. فالإجراءات التي تم اتخاذها نحو قطر مكلفة جداً لها بسبب الحصار الاقتصادي والمقاطعة والعزل السياسي، مكلفة على الصعيد الآني وعلى المدى البعيد بما يؤثر في مشاريع قطر التنموية منها والرياضية مثل استضافة المونديال.

الأمم المتحدة ابتعدت عن الأزمة في انتظار وضوح معالمها، إنما القلق على ليبيا بالذات اتخذ صفة ملحة نظراً للصراع بين قطر والإمارات في بلد هش يقع على حافة الانهيار إلى حرب أهلية. مثل هذه الحرب تدب الرعب في قلوب الأوروبيين خشية تدفق الهجرة إلى دولهم وقلقاً من تنامي الإرهابيين في وقت تواجه أوروبا اختراقاً إرهابياً لأمنها.

السفراء الغربيون تحدثوا عن دور شخصي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في ملف ليبيا تطوّع بالقيام به حرصاً على دفع العملية السلمية إلى الأمام بتعديلات ضرورية على اتفاق الصخيرات. تحدثوا عن ارتياح إلى تعاون مصري- جزائري- تونسي وعن مخاوف حدة الخلافات الإماراتية– القطرية في ليبيا وانعكاساتها الخطيرة. لذلك، قد يرتأي غوتيريش القيام بدور المهدّئ للأعصاب الإماراتية والقطرية للجم أي اندفاع نحو التصعيد المكلف لليبيا نفسها ولجيرتها العربية والأوروبية.

كثيرون في إدارة ترامب، بالذات من العسكريين في المناصب المدنية، معجبون بسياسة الـ Surge القائمة على عقلية الاندفاع بزخم القوة والحزم للتأثير الجذري في قطر لجهة إما تغيير نهجها أو احتوائها بفوقية إذا قاومت التغيير. مثل هذه العقلية تبدو وراء السياسة الأميركية نحو إيران، مثلاً، في هذه المرحلة من العلاقات وملامحها واضحة في الإجراءات الخليجية نحو قطر. وبحسب المصادر الأميركية الرفيعة، تهدف الإجراءات الخليجية إلى الضغط على قطر جدياً بهدف كبح أو لجم الدعم للإرهاب مع التشديد على أن المسألة ليست «أبيض وأسود لأن علاقاتنا مع قطر راشدة، ولنا قاعدة عسكرية مهمة هناك، ونحن في حاجة إليهم، إنما مواجهة الإرهاب فائقة الأهمية». وتضيف المصادر: «نحن لا نسيطر على إجراءاتهم ضد قطر. كل ما أوحينا به هو أننا نريد أقوى دعم ضد الإرهاب».

مصر أرادت أن تكون في المقدمة ليس فقط بسبب الخلاف الجذري مع قطر بسبب «الإخوان المسلمين» وإنما أيضاً لإبراز العلاقة المميزة مع الرئيس ترامب وتلبية دعوته لمكافحة الإرهاب. توجد الآن احتمالات توسيع نطاق المواجهة مع قطر– وإن لم يكن عبر إجراءات عسكرية– لدرجة تحوّل المسألة إلى عقدة بضخامة عقدة اليمن، انعكاساتها مؤذية للشعب الخليجي برمته وللعمّال فيه.

صحيفة «نيويورك تايمز» كتبت عن تعيين مايكل داندريا في منصب قيادة مبادرة جديدة ضد إيران في وكالة الاستخبارات المركزية CIA واعتبرت تعيين «أمير الظلام»، كما يسمى مؤشراً على جدية الموقف المتشدد لإدارة ترامب نحو إيران. والمؤسسة العسكرية لا تنوي الانخراط برجالها في صفوف التشدد، ميدانياً، مع إيران على رغم مواقف إدارة ترامب التصعيدية ضد طهران بالذات أثناء قمة الرياض، وعلى رغم قول ترامب إن إيران هي «دولة الإرهاب الأولى»، وعلى رغم قلقها من قدرات إيران في مجال القرصنة الإلكترونية. القيادات العسكرية الأميركية تريد أن يكون الصف الأمامي للدول الخليجية التي تقرر المواجهة مع إيران، أو تقرر لجم إيران في سورية والعراق واليمن. تريد هذه القيادات من الدول العربية والخليجية بالذات اتخاذ القرار إذا شاءت، وتقديم القوات والأموال لتنفيذه بنفسها لأن الولايات المتحدة لن تفعل وستكتفي بتقديم النصيحة والدعم عند الضرورة.

المؤسسة العسكرية الأميركية لا تريد الالتهاء بالشرق الأوسط وتفاصيله لأن مصدر التهديد الوجودي الوحيد للولايات المتحدة هو روسيا. لذلك، يريد كبار القيادات العسكرية الانتهاء من الانصباب على روسيا كمتورط في الانتخابات الرئاسية. يريدون معالجة التداعيات تمهيداً أو تحريراً لضرورة إحياء قنوات الحوار مع روسيا على صعيد المؤسسات العسكرية إما كصديق، أو كعدو، أو كشريك في المصالح المشتركة في مختلف بقع العالم. المؤسسة العسكرية تريد الوضوح في قنوات التواصل تجنباً للمواجهة وحرصاً على احتواء التهديدات الوجودية.

إيران مهمة لها في رسم المشهد في الشرق الأوسط، وكذلك تركيا إلى جانب الأولوية الإسرائيلية وإحياء العلاقات التقليدية مع الدول الخليجية. هناك الآن أزمة خطيرة ومصيرية ووجودية من وجهة النظر الخليجية مصدرها قطر بسبب نهج الفكر والرؤية الوجودية لقطر المتمثل في العلاقات مع الحكومة في طهران ومع «الحرس الثوري» في إيران، مع «الإخوان المسلمين» في مصر وامتداداتهم في الإمارات وغيرها، مع تنظيمات في سورية والعراق عليها علامات استفهام ذات علاقة بالإرهاب. كل هذا خارج السرب العربي والخليجي بالذات.

في وسع قطر، إذا قررت، تفنيد كل هذه الاتهامات وإعلان خريطة طريق واضحة لرؤيتها وسياساتها تبدد غيوم العلاقات مع الدول الخليجية ومع الولايات المتحدة الأميركية. فإذا كان ما حدث بمثابة إنذار، إنه ليس جرساً فارغاً بصوت دوي. إنه إبلاغ جدي، عربي وأميركي، بأن محاصرة قطر وتطويقها ليس فورة عاطفية عابرة بل نقطة تحوّل مهمة وخطيرة ما لم تستدرك الدوحة، وتستدير.

وفي وسع إدارة ترامب أن تلعب دوراً بنّاءً بعيداً عن الغمز لهذا والتحريض لذاك والتشجيع على مواجهات ليس من السهل ضبطها. هذه ليست لعبة إلكترونية، روسية أو أميركية، لأن مصير المنطقة العربية برمتها في المعادلة. فليت مغرّد واشنطن ينسق مع إدارته الراشدة خطوات تطويق التدهور بإظهار حزم الولايات المتحدة في حماية مصالحها الاستراتيجية وليس بالتلاعب على تقلباتها لغايات تكتيكية.