IMLebanon

تسوية على قياس: أنا.. أو لا أحد!!

المشهد السياسي اللبناني مدعاة للسخرية والشفقة في آن، حيث ما زال بعض السياسيين، يعيش في وهم قدرته على نسف التفاهمات الدولية والإقليمية، والعمل على تغيير وجهة التاريخ، ليس في لبنان وحسب، بل وعلى امتداد الشرق الأوسط كلّه، إذا لم نقل على مستوى العالم أيضاً!!

آخر فصول المهزلة السياسية في لبنان، ما نشهده اليوم من صخب وغضب في صفوف بعض القيادات المارونية، رداً ورفضاً لتفاهمات مركبة، خارجية وداخلية، قضت باختيار النائب سليمان فرنجية «مرشحاً توافقياً»، لرئاسة الجمهورية!

رئيس تيّار المردة هو أحد الأربعة «الأقوياء» حسب التصنيف السياسي الماروني، والذي يشمل أيضاً كلاً من: الرئيس أمين الجميل، العماد ميشال عون، ود. سمير جعجع.

ورئيس كتلة زغرتا النيابية يتمتع بقاعدة شعبية مسيحية مرموقة، وينتمي إلى بيت سياسي عريق، أحد أركانه حميد فرنجية الذي كان من رجالات الاستقلال، فضلاً عن أن جدّه الرئيس سليمان فرنجية كان ممثّل العرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة.

والزعيم الزغرتاوي هو حليف قديم في «محور الممانعة»، وسبق غيره في هذا الخيار، بسنوات طويلة.

والترشيح يحظى بموافقة الفاتيكان، أعلى مرجعية مسيحية كاثوليكية في العالم، وبمباركة بكركي المرجعية المسيحية الأولى في لبنان.

وأكثر من ذلك،

فان اختيار سليمان فرنجية مرشحاً، كان نتيجة مشاورات دولية وإقليمية واسعة، محورها الأساسي جمع بين واشنطن وموسكو، وذلك على هامش الاتصالات والمساعي الناشطة للتوصل إلى حل سياسي للحرب السورية، بعد التقدّم اللافت الذي أحرزته اجتماعات فيينا.

ولكن، كل هذه المعطيات لم تُقنع بعض القيادات المارونية، بل لعل تلك المعطيات ومدلولاتها المختلفة، قد استفزت أبرز القيادات الحزبية المارونية، وخاصة المُرشحَيْن المتنافسَيْن – المتعاونَيْن: العماد عون ود. جعجع!

* * *

يرى البعض أن من الطبيعي أن تبادر القوات والتيار العوني إلى رفض ترشيح فرنجية، أو على الأقل التحفظ الفوري على مثل هذه الخطوة، لأن كلاً من عون وجعجع ما زالا مُرشحَيْن مُعلنيْن في السباق الرئاسي، وكل واحد منهما، يعتبر نفسه أكثر تمثيلاً للمسيحيين من فرنجية - كذا - وبالتالي فمن حق كل منهما أن يدافع عن حظوظه في السباق نحو قصر بعبدا.

الواقع أن قراءة سياسية موضوعية لإحداثيات الشغور الرئاسي، والمراحل، والمطبات الخطرة، التي وقعت فيها الانتخابات الرئاسية، تدحض مثل هذه الطروحات، وتبين بكل وضوح، استحالة وصول أي من المرشحَيْن، عون أو جعجع، لرئاسة الجمهورية، بدليل إصرار الأول وفريقه على مقاطعة جلسات الانتخابات الرئاسية، وتعطيل عمل مجلس النواب، لأنه لم يضمن تأييد الأكثرية النيابية له، في حين أن الثاني وفريقه السياسي لم يستطيعا تأمين أكثرية الثلثين لانعقاد الجلسة الانتخابية، وتأمين فوزه بالرئاسة الأولى.

هذه المعاناة المريرة مع التعطيل المتعمّد من جهة، ومع العجز في تأمين الأكثرية المطلوبة من جهة ثانية، فرضت حالة من الشلل المخيف في مفاصل الدولة ومؤسساتها الدستورية، وأحبطت الحركة السياسية، وأبسط ممارساتها الديمقراطية، وأدت إلى هذا التراجع الكبير في الحياة اليومية، انطلاقاً من التغييب القسري لمجلس النواب ومجلس الوزراء، وصولاً إلى انفجار مسلسل الأزمات المعيشية الأخرى، وفي مقدمتها أزمة النفايات، ورواتب الجيش وموظفي القطاع العام!

سنة ونصف السنة مرّت في خضم هذه المعاناة، والبلاد تنتقل من وضع سيئ إلى أسوأ، ومصالح العباد معطلة، وجبل الأزمات يتراكم فوق جبال النفايات في المدن والشوارع، والرئاسة الأولى أسيرة المزايدات والتعطيل، وضحية سياسة: أنا.. أو لا أحد!!

* * *

إزاء هذا العجز الفادح للطبقة السياسية في تمرير الاستحقاق الرئاسي، كان لا بدّ من انتظار الفرصة الخارجية المناسبة!

دقت ساعة الفرصة المنتظرة، على إيقاع اجتماعات فيينا للدول المعنية بالأزمة السورية، ووصلت بعض التفاهمات الدولية – الإقليمية إلى شاطئ الرئاسة اللبنانية.

التقط قطبا الحركة السياسية في لبنان: تيّار المستقبل عن 14 آذار وحزب الله عن 8 آذار، الفرصة المتاحة. طرحَ السيّد حسن نصرالله شعار: التسوية الشاملة تحت سقف اتفاق الطائف والدستور الحالي، فتلقف الرئيس سعد الحريري المبادرة، واعتبر أن الانتخابات الرئاسية هي مفتاح التسوية الشاملة!

وكان أن تولى الرئيس الحريري مهمة تظهير التفاهمات الخارجية على المسرح الداخلي، وحاول إتمام العملية في أجواء من التكتم، حماية للمساعي من سهام المتضررين والمنفعلين، ولكن شهوة التسريب والشهرة عند بعض المتواجدين في حلقات التشاور والتواصل، أدت الى تعريض المحاولة للإرباك، تحت وابل من المزايدات والانتقادات، من قبل الأحزاب المارونية المتضررة!

لقد سبق وذكرنا بتجربة عام 1989 المدمرة، عندما رفض عون وجعجع التوافق الأميركي – السوري على اختيار ميخائيل الضاهر مرشحاً لرئاسة الجمهورية، ولم يأبها لتهديد الموفد الأميركي ريتشارد مورفي بالفوضى، فكان أن ذهبا إلى الفوضى القاتلة، والتي أدت إلى نشوب حربين في المناطق المسيحية خلال أقل من عام واحد!!

رغم أن المعطيات الحالية تختلف جذرياً عمّا كان عليه الوضع عام 1989، إلا أن الإصرار على تحدي التفاهمات الدولية، وعرقلة إجراء الانتخابات الرئاسية، لن يعرض الوضع اللبناني لمزيد من الأخطار الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وحسب، بل سيضع الدور المسيحي في المعادلة الوطنية على حافة الانهيار أو التراجع على الأقل، على نحو ما حصل بعد تجربة 89، حيث تعرّض الدور المسيحي للضغط والخمود، وسادت أجواء من التململ والإحباط في الوسط المسيحي، بسبب أخطاء قياداته الفادحة!

من سخريات القدر أن التفاهمات الدولية تحاول وضع تسويات لكل أزمات المنطقة، في حين أن بعض القيادات اللبنانية يريد تفصيل تسوية على قياس شعاره: أنا.. أو لا أحد!!!