IMLebanon

عبودية جنسية في لبنان

تمّ تحرير 75 فتاة من براثن عصابة إجرامية تستعبدهن وتُجبرهن على ممارسة الدعارة. هذا يحصل في لبنان، حيث السلطات المعنية لا تزال تتصدى للتقارير الكثيرة التي تتحدث عن وجود «سوق» رائجة للاتجار بالبشر. ما كُشف عنه في الأيام القليلة الماضية ليس إلا دليلاً إضافياً على وجود هذه السوق وازدهارها، في ظل مأساة الشعب السوري

ليست قضية «دعارة»، إنها أكثر من ذلك بكثير، إنها إحدى التعبيرات الكثيفة عن الانحطاط الذي نقيم فيه ونواصل إنكارنا له. فما كشفت عنه التحقيقات الأمنية في الأيام القليلة الماضية دلّ بنحو صارخ على وجود نوع من «العبودية الجنسية» في لبنان، على غرار ما تمارسه «داعش» في مناطق سيطرتها.

هذه التحقيقات طاولت شبكة واحدة تعمل في مناطق مختلفة وتستدرج فتيات مقيمات في سوريا ولبنان لاستعبادهن، إلا أن التفاصيل التي كُشف عنها حتى الآن تشي بأن سوق النخاسة اللبنانية رائجة، والتجارة بالبشر منتشرة ومحمية، في ظل سيادة الفساد وثقافة الريع.

بحسب بيان صدر الخميس الماضي عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ـ شعبة العلاقات العامة، تمكنت مفرزة استقصاء جبل لبنان في وحدة الدرك الإقليمي من كشف «أخطر شبكة للاتجار بالأشخاص في لبنان» وتوقيف بعض أعضائها في محلة جونية، وتحرير 75 فتاة، معظمهن من الجنسية السورية، تعرضن للاستعباد والاغتصاب والإجهاض القسري والتعذيب النفسي والجسدي والتشويه، بهدف إجبارهن على ممارسة الدعارة.

جرت العملية الأمنية على مرحلتين، إذ دهمت المفرزة المذكورة بتاريخي 27 و29 آذار الماضي بعض الملاهي الليلية والشقق، التي تستخدمها الشبكة لاحتجاز الفتيات، وألقت القبض على عشرة رجال وثماني عاملات «بصفة «حارسات» يعملن على حراسة هذه الشقق وإدارتها، فيما لا يزال اثنان من الذين يديرون هذه الشبكة متواريَين عن الأنظار، وقد سُلِّمَت الفتيات المحررات لعدد من الجمعيات بناءً على إشارة القضاء المختص، فيما التحقيق مستمر لتوقيف باقي أفراد العصابة والمشاركين في هذه العملية. وبتاريخ 31/3/2016، تمكنت المفرزة المذكورة من توقيف الطبيب الذي كان يُجري عمليات إجهاض للفتيات، ويدعى ر. ع. (مواليد عام 1961، لبناني) والممرضة التي كانت تعاونه، وهي ج. أ (مواليد 1961، لبنانية)، وقد اعترف هذا الطبيب بإجراء نحو 200 عملية إجهاض في إطار عمله مع هذه الشبكة.

عدد من الفتيات كنّ قاصرات عند استعبادهن. ووجدت القوى الأمنية رضيعة (8 أشهر) هي ابنة إحدى الفتيات التي تأخرت عملية إجهاضها. تقول المصادر الأمنية «إن أفراد العصابة وافقوا على احتفاظها بالجنين بعدما تبين أنها بنت، وبالتالي إمكانية استغلالها لاحقاً).

كيف اكتُشفت الشبكة؟

تقول مصادر في قوى الأمن الداخلي إن فتاتين من الفتيات المستعبدات نجحتا في الفرار يوم الجمعة العظيمة، إذ استغلتا تخفيف عدد الحراس ووجود حارسة واحدة فقط عند المدخل، تعاونتا على ضربها وتمكنتا من الهرب باتجاه الحدث، هناك التقتا بشخص ساعدهما في الاتصال بمفرزة جبل لبنان، وبعد يومين من الرصد والتتبّع تمكّنت القوى الأمنية من دهم الأماكن المشتبه فيها، وحررت الفتيات وأودعتهن في مراكز الإيواء التابعة لجمعية كاريتاس/ مركز العمال الأجانب وجمعية «كفى» وجمعية INTERSOS لبنان.

بحسب معلومات قوى الأمن الداخلي، فإنّ «رأس» الشبكة هو لبناني يُدعى علي حسن زعيتر، فيما «المُدير التنفيذي» سوري يُدعى عماد الريحاني. وكانت هذه الشبكة تستخدم ملاهي ليلية وفنادق وشققاً مفروشة عدّة، منها ملهيا «شي موريس» و»سيلفر» في جونية، اللذين يديرهما اللبناني موريس جعجع، وهو موقوف منذ 3 أشهر بتهمة تسهيل الدعارة.

هناك شكوك كثيرة حول وجود «حماية» لهذه الشبكة من جهات نافذة سياسية وأمنية، إذ كيف يمكن مدير الملهيين أن يكون موقوفاً في حين أن ملهييه يستمران في نشاطات الشبكة التي ينتمي إليها! وبحسب إفادات الفتيات المحررات وبعض المطلعين، فإن الملهيين (وغيرهما) كانا يقفلان بالشمع الأحمر ليعاد فتحهما بعد يوم أو يومين. وكذلك حصلت سابقاً عمليات توقيف عدّة لأعضاء في الشبكة وفتيات يجبرن على ممارسة الدعارة، وكانت الأجهزة المعنية تفرج عنهم من دون استكمال التحقيقات والإجراءات وتوفير الحماية للموقوفات.

التعذيب لفرض الطاعة

يُلقب الريحاني بـ»الجلّاد»، وهو كان يتولى التعذيب والتشويه، وبحسب الإفادات الأولية، كان يعمد «الجلاد» إلى تعذيب الضحية وتصويرها وعرض مقاطع الفيديو على الفتيات الأُخريات لبثّ الرعب في نفوسهن وجعلهن راضخات.

«عمل إجرامي مُمنهج»، على حدّ وصف مصادر القوى الأمنية للتعذيب التي كانت تتعرّض الفتيات المستعبدات. تقول المصادر إن غالبيتهن استُدرجن إلى لبنان بذريعة قيامهن بأعمال منزلية في البيوت أو غيرها، «وفور وصولهن، كانت جوازاتهن وأوراقهن الثبوتية تُصادر، وكنّ يُخبرن أنهن مسجونات من لحظة وصولهن وأنهن مُجبَرات على العمل في الدعارة تحت تهديد القتل». بعض الروايات التي لم يجرِ التأكّد منها من مصادر التحقيقات، تفيد عن فتيات قُتلن تحت التعذيب أو بسبب الإجهاض في مراحل الحمل المتقدّمة.

ممارسات فظيعة كشفتها التحقيقات، تتمثّل بخضوع الفتيات لفترات عمل طويلة تمتد أحياناً إلى 20 ساعة في اليوم من دون أي مُقابل مالي. وكشفت الأدلة التي حصلت عليها القوى الأمنية من الأماكن المُداهمة عن وجود نظام عقوبات إن لم تلتزم الفتاة المستعبدة التعليمات. كانت تُجلَد إذا لم تقنع الزبون بتمديد مدّة خدماتها لكسب المزيد من المال، أو إذا تكلمت بأمور قد تكشف أمر الشبكة، أو إذا تقاضت أموالاً من دون معرفة أعضاء الشبكة… إلخ. وكانت «الحارسة» تتولى مهمات عديدة، أبرزها التأكّد من مظهر الفتاة الخارجي، وإذا ما كانت تلبّي المعايير المطلوبة منها (كيفية اللباس والمشي والتصرّف)، وأي إشارة خطأ تضعها في «سجلّ» الفتاة، من شأنها أن تعرّضها للجلد أيضاً. ساعات الجلد كانت تُنفذ في خلال الأربع ساعات المفترض أن تستريح في خلالها الفتاة. إضافة إلى الجلد، هؤلاء الفتيات كن يتعرّضن للضرب المبرح بواسطة الهراوات والعصي، ويُعذَّبن بواسطة الكهرباء.

وكان «المُدير» ينشر الرعب بين الفتيات عبر دسّ زبائن وهميين للإيقاع بأي فتاة تُبدي تجاوباً للتخطيط للهروب معه أو للتواصل مع أحد من أهلها أو أقاربها في الخارج. كذلك عبر دسّ فتيات يحاولن استدراج الفتيات للحصول على معلومات تفصيلية عن طريقة العمل وللحديث عن أي شكوى من نمط الحياة.

الاتجار بالبشر

تنكر السلطات اللبنانية ما تكشفه تقارير عدّة عن وجود سوق رائجة للاتجار بالبشر في لبنان. إلا أن التحقيقات الأمنية الأخيرة تزيل أي شكوك في هذا المجال. سبق أن أشارت التقارير إلى أن لبنان يعدّ مصدراً ومقصداً للنساء والأولاد الذين يخضعون مرغَمين للعمالة والاتجار الجنسي، فضلاً عن ظاهرة استعباد العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية المحمية بنظام الكفالة غير القانوني. وكذلك توجد آلاف النساء اللواتي يحضرن إلى لبنان ليعملن راقصات ويرغمن على العمل في مجال الدعارة.

«إن القضاء، كما قانون الإتجار بالبشر، عامل النساء المدّعى عليهن بالدعارة معاملةً شبه مُشابهة للمدعّى عليهم بالتسهيل، من حيث التوقيف أو من حيث وسائل الإثبات أو حتى من حيث العقوبات المحكوم بها أو من حيث الأسباب التخفيفية أيضاً، على الرغم من الهامش الواسع المتروك للقاضي في هذا المجال». هذا ما خلصت إليه دراسة «الدعارة جريمة أخلاقية أم جريمة استغلال» عام 2014، المعدّة من قبل المحامي نزار صاغية والمحامية غيدا فرنجية، والتي فضحت «السلوكيات» القانونية الاستنسابية التي تأتي غالباً على حساب الفئات المهمّشة من النساء ضحايا الدعارة. عسى أن تفتح هذه القضية مجالات جديدة في التحقيقات المقبلة وتمهّد لمقاربات جديدة من شأنها مراعاة حجم الاستغلال الذي تتعرّض له الفئات المُستضعفة في قضية الدعارة.

660 موقوفاً

هو عدد الموقوفين لدى مكتب مكافحة الاتجار بالأشخاص وحماية الآداب بحسب إحصاءات عام 2014، إلا أن 8 أشخاص فقط أوقفوا بجرم الإتجار بالأشخاص، فيما أُوقف 381 شخصاً بجرم ممارسة الدعارة و 146 بجرم تسهيل الدعارة. كذلك في عام 2013 أُوقف 6 أشخاص فقط بجرم الإتجار بالبشر من أصل 416 موقوفاً بتهمة الدعارة، فيما بلغ عدد الموقوفين في جرم ممارسة الدعارة 247 وعدد الموقوفين في جرم تسهيل الدعارة 63 موقوفاً.

هذه الأرقام تُرسي إشكالية تغييب مُقاربة الاتجار بالأشخاص في قضايا الدعارة التي تكون فيها النساء المُستغلات «الحلقة الأضعف».