IMLebanon

كي لا نكون حمقى!

فشل البيان التوضيحي الذي أصدرته جامعة «الألبا» في لبنان في تبديد المزاج السلبي الذي سببه فيديو عنوانه: «هل بتضهري مع سوري؟» والذي انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بصفته عملاً لطالبات من الجامعة. أثارت الدقائق القليلة المقتصرة على مقابلات مع بضع طالبات صدمة وسخطاً كبيرين لجهة السؤال المطروح أولاً، وللإجابات السلبية القاطعة للفتيات ثانياً.

راج الفيديو بصفته دليلاً جديداً على النظرة السلبية العنصرية السائدة في لبنان حيال الوجود السوري. ولم يتمكن تبرير الجامعة، بأن الفيلم مشروع تخرج هدفه تظهير قوة الإعلام الاجتماعي ومعالجة ظاهرة العنصرية في لبنان، من إقناع جمهور محتقن على الضفتين اللبنانية والسورية، بل تم التعامل معه بصفته بياناً غير مقنع صيغ على عجل لاحتواء الردود السلبية والانتقادات. وبقيت أصداء الفيديو مادة للسجال وتبادل الشتائم والنقاشات الحادة في شأن الوجود السوري في لبنان وفي شأن العلاقة اللبنانية السورية.

في الحقيقة، ليس مستغرباً أن يعجز بيان الجامعة عن احتواء المفاعيل السلبية للفيديو لسبب جوهري، وهو أن هذا الفيديو سُرّب من دون أي تقديم أو تعريف أو سياق واضح مرافق له، فكان من الطبيعي أن يعمّ هذا المسار من ردود الأفعال التي لن تتمكن من تهدئتها وعقلنتها كلمات بيان مرتبك. فلا قوة لبيان أمام سهولة رواج فيديو حافل بالمشاعر السلبية.

في الصحافة هناك قول شائع وفيه «نصٌ من دون سياق هو ذريعة»، والمقصود أن أي عبارة أو مادة مجتزأة حجة معاكسة، وهذا ينطبق على أي محتوى يُعرض في الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. فالسياق يفوق في أهميته أحياناً المادة أو الحدث نفسه. فمن دون شرح الخلفية أو المعنى المرافق للمحتوى، نكون قد جازفنا بالقصة مهما كانت مهمة.

صحيح أنه لا تمكن محاكمة فيديو طالبات «الألبا» بصفته مادة صحافية، لكنه في النهاية محتوى نُزع من سياقه فتم توزيعه عشوائياً من دون خلفية، فكان ما كان من ردود شاجبة. وهو ما رسّخ هذه المادة بصفتها دليلاً على عنصرية لبنانية. فسواء كان فيلماً أو مقالاً أو تحقيقاً أو صورة أو حتى مجرد تعليق، فالسياق هو السياق وما لم يتم توفير هذا الأمر فالجميع يجازف بإغراق العوالم المفتوحة بمعلومات مشوشة. وهذه حال نختبرها في كل لحظة تقريباً من أعمارنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ما حصل مع فيلم جامعة «الألبا» درس لنا، نحن من نشعر بأننا متعبون من التعامل مع قضايا عاطفية مشحونة بحيث بات من السهل فقدان التركيز أو تحديد جوهر القصة. هناك الكثير مما يحصل حولنا بحيث نشعر بأنه بات من الصعب أحياناً فهم كل ذاك الاحتقان، فكيف بتفسيره للمتابعين أو المهتمين أو للرأي العام. وهذا قلق يمكن لمسه عند الكثير من الصحافيين. فبسبب كل ما نعيشه من انقسامات وحروب واستبداد، من الطبيعي أن نشعر أحياناً بالخوف والتردد حيال التعامل مع حالات وأوضاع حساسة، لكن علينا دائماً تذكر أن السياق يساعد على فهم ما يحصل من حولنا أو بعض منه على الأقل، ولنتذكر أن شخصاً أو اثنين أو ثلاثة ليسوا حجة لوصم عرق أو جنسية أو دين. فهذا هو الوقت لتقديم مقاربات عادلة حتى لو بدا البعض مشككاً.

قرأت في إحدى القصص الإخبارية عن استنفار كبير يعيشه صحافيون في الولايات المتحدة وفي الغرب عموماً نتيجة تصاعد قوى اليمين ولغتهم المفعمة بالمواقف العنصرية. كتب أحد المعلقين: «لنجهد كي لا نكون حمقى في الوقت الراهن، فالتاريخ لا وقت ولا طاقة لديه لأحد». قصد التعليق هذا الإيحاء بمدى جدية الوضع وبأنه لا يحتمل خفة بعض الصحافيين مع تصاعد شعور بخطر حقيقي في حقبة دونالد ترامب و «بريكزيت»، فكل يوم تنبئنا المواقف بأن العواطف متأججة الى حد لا يحتمل المزيد من الشحن.

لا شك في أننا هنا في المنطقة سباقون في اختبار معنى الانقسام والانحياز السريع للحروب. من هنا تبدو تفاصيل من نوع فيديوات تحمل مشاعر سلبية شأناً يومياً في عالم يستسهل ذلك وأكثر. فكيف والحال هذا يمكن أن نناقش قضايا العنصرية والكراهية في عصر اليمين المتطرف. إنه سؤال يؤرق الجميع خصوصاً في عصر الميديا الحديثة وعصر وسائل التواصل الاجتماعي.

هناك من يدلي بآراء لم نكن نتوقع سماعها في الإعلام قبل عشر سنوات، لكن الآن بات أصحاب تلك الآراء في مواقع القرار ويصعب تجاهلهم. ولعل أكبر أخطار عصر دونالد ترامب أنه يحول ما هو غير مقبول ومرفوض الى أمر طبيعي يتداوله العامة عبر تعليقاتهم، فيعلنونها في شكل يجعلها رائجة وعادية مهما كان مضمونها صادماً.

من مفارقات هذا الأمر اضطرار قناة سي إن إن للاعتذار عن عنوان ظهر على شاشتها وفيه «مؤسس حزب أقصى اليمين يسأل ما إذا كان اليهود بشراً». هذا النوع من السقطات التحريرية يجازف في تحويل العنصرية الى أمر طبيعي ويرفع حدّ ما هو مقبول. ومعضلة غرف الأخبار حالياً هي كيفية التعامل تحريرياً وأخلاقياً مع اليمين المتصاعد. لقد تغير مسار التواصل عما كان عليه قبلاً، فلو قال ترامب الأمور التي تفوه بها خلال حملته قبل ٨ سنوات، عن المسلمين والمكسيك والمعوقين والنساء وعن خصومه الجمهوريين وعن القادة الدينيين وعن العلم، لكان تم تغييبه من المشهد العام، إذ لم يكن هناك مجال لأصوات كصوته.

الآن بات الوضع مختلفاً، إذ هناك قبول وتسامح اجتماعي مع هذا النوع من الخطاب، إضافة الى أن «السوشال ميديا» وفرت غطاء عبر رأي عام يوافق هذه الآراء ويتحمس لها، ما خلق بنية متسامحة وشعوراً بإمكان التعبير عما كان يصعب مجرد التفكير فيه.

هذا تغيير جذري عميق، فالنظام البيئي للإعلام الجديد يعني أن كل شيء حقيقي كما يعني تماماً أن ما من شيء صحيح. فالقدرة على نشر معلومات مغلوطة ولغة تحقيرية فيها كذب ونظريات تآمر، من دون عقوبات، أمر بات سهلاً ومتسارعاً في شكل يجعل الرأي العام والناخبين أكثر عرضة للاستقطاب وأبعد عن لغة حوار مشتركة.

لهذا يبدو فيديو جامعة «الألبا»، سواء أكان أُنجز بهدف مكافحة العنصرية أو بهدف تثبيتها، مادة حمقاء، واللحظة التي نعيشها لا تحتمل سقطات مثلها.