IMLebanon

بعض أسرار الإنقلاب الفاشل

سيمضي وقت طويل قبل أن تنكشف فعلياً كلّ زوايا صورة الانقلاب الفاشل الذي هزّ تركيا ومعها الشرق الأوسط والعالم. لكنّ الأكيد هو أنّ الضباط الأتراك الذين فشلوا في إزاحة الرئيس رجب طيب أردوغان ورجاله أدخلوا تركيا في مسارٍ جديد وتركيا جديدة.

الأسئلة الأهم دارت وما تزال حول الجهة الدولية الكبرى التي وقفت خلف الانقلابيين. وفيما يجهد الرئيس الاميركي باراك أوباما في نفي أيّ تورط لبلاده في ما حصل، ما يعزّز الاعتقاد بأنّ واشنطن لم تكن بعيدة كثيراً عن الانقلابيين، ولو ضمن حدود مضبوطة.

في الاساس تُعتبر تركيا الجيش الثاني من حيث القوة داخل حلف «الناتو» بعد الجيش الأميركي وهو ما يعني كثيراً لواشنطن التي تحرص على علاقات متينة وحميمة ودافئة مع جيوش الشرق الأوسط، فكيف بالحري مع جيش المليون جندي والذي أوكلت اليه مهمة مواجهة جيش الاتحاد السوفياتي إبّان مرحلة القطبين العالميَّين، وبالتالي تشكيل السدّ المطلوب لمنعه من الوصول سريعاً الى آبار النفط في شبه الجزيرة العربية.

وبسبب هذا الموقع المميَّز والقوة العسكرية الهائلة لجيش تركيا، من المنطقي الاستنتاج بأنّ شبكات الرصد والإنذار الجوّي الموجودة لدى الأميركيين والروس وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية اعطت إشاراتها عندما حلّقت أولى الطائرات الحربية في وضعية قتالية فوق أنقرة في ساعات المساء وما من شك أنّ إحدى هذه الدول على الاقل أبلغت الى أردوغان عاجلاً بما لديها من معلومات رصد.

قبل ذلك أصبح ثابتاً أنّ دولة تتمتع بقدرة اختراقٍ بشرية داخل الجيش أبلغت الى أردوغان قبل ساعات معدودة عن تحضيراتٍ انقلابيةٍ جارية. والعلاقات المميَّزة مع الجيش التركي تعطي لواشنطن وتل أبيب الأفضلية.

وطالما أنّ واشنطن متهمة بالتعاطف مع الانقلابيين، يبقى الدور الإسرائيلي الملتبس والمتحسّس من حضور أميركي أقوى في الشرق الأوسط. ويكفي استحضار مرحلة الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 لتبيان مدى النزاع الأميركي ـ الإسرائيلي الذي رافق الاجتياح وأعقبه.

افتضاحُ العمل الانقلابي قد يكون أجبر القائمين به على اختصار الوقت والتحرّك ليلاً بدل الفجر ما حرمهم، على الارجح، فرصة مباغتة أردوغان

واعتقاله وهو نائم.

لكنّ ذلك لم يكن السبب الوحيد وراء فشل الانقلاب. وقيل إنّ القطع العسكرية المحدودة التي تحرّكت ونجحت في السيطرة على مرافق حيوية عامة كانت موعودة بإنضمام قوات برّية اليها.

لكنّ قائد هذه القوات أحجم في اللحظات الأخيرة عن الانضمام الى رفاقه، ربما بنصيحة خارجية بعدما تبيّن أنّ أردوغان أفلت من الاعتقال وتوجّه الى قاعدته الإسلامية، فنزل رجال دين مسلمون الى الشارع لحضّ الناس وباشرت المآذن في توجيه دعوات التكبير، وهو ما سيرفع من احتمالات إدخال تركيا في فوضى داخلية عارمة وسقوط دورها الإقليمي بكامله، ما يجعل إجهاض الانقلاب أفضل الخيارات المتاحة.

قيل إنّ الانقلاب لو نجح لكان سيؤدي الى إعادة حكم العسكر والتنسيق المطلق مع السياسة الأميركية والى ضبط كلّ المنافذ التركية ـ الأوروبية وضبط النزاع في الشرق الأوسط وفق معادلة جديدة تشكل فيها إيران رقماً صعباً بعد اتفاقها النووي. لكنّ الانقلاب فشل وفتح الأبواب أمام أخذ تركيا الى نظامٍ إسلاميٍّ أكثر بدليل تطهير قطاع الجامعات، وهو ما لا يزعج واشنطن شرط نزع مخالب تركيا العسكرية وهو ما باشره أردوغان بنفسه.

فالرئيس التركي وسعيه المستمرّ لتعديل الدستور ووضع كلّ السلطات في يده كان يخيف الغرب والسبب أنّ دروس التاريخ تشير الى أنّ وضع جيش قوي كامل التجهيز تحت سلطة حاكم واحد لديه أجواء ايديولوجية سيعني الاقتراب كثيراً من شهوة السيطرة على دول الجوار ولو من خلال الحروب. وبالتالي فإنّ بقاء أردوغان ولكن مع جيش ضعيف من شأنه أن يعيد بعض الطمأنينة.

أردوغان وفي إطار خطة استغلال الظرف والإطباق الكامل على خصومه والإمساك بكلّ مفاصل السلطة، باشر عملياً في إضعاف الجيش من خلال حملات التطهير، وهنالك مَن يراهن على خفض عديده خلال المرحلة المقبلة.

ورغم الكلام الذي يتحدّث عن انقلابٍ ثانٍ في وقت قريب، إلّا أنّ أيّاً من الخبراء لا يعتقد ذلك، بل يتحدّث عن نجاح أردوغان في ضمان سنوات عدة لحكمه لا تقلّ عن الخمس، لكنّ استمراره أكثر مرهونٌ بسلوكه السياسي.

في المرحلة الحالية هنالك مَن يتوقع ان يأمر أردوغان بعمليات عسكرية واسعة ضدّ الأكراد في الجنوب التركي، ما سيشغل الجيش والأكراد معاً عن أيّ عمل لعرقلة خطواته الداخلية ويمنح الشارع التركي هديّة قيّمة.

وسيستمرّ في خطته الجديدة تجاه سوريا من خلال مهادنتها وهو ما سيُكسبه رضى العلويين داخل الجيش والقضاء. سينكفئ لبعض الوقت عن الخارج لإنجاز ترتيب بيته الداخلي ما سيعطي ذلك الفرصة لموسكو وواشنطن لإنجاز الترتيبات الميدانية في سوريا.

ولم يكن وليد المصادفة استكمال الهجوم على منبج والسعي لطرد «داعش» منها، إضافة الى إحكام الطوق حول حلب، والذي سيُستكمل من خلال الإطباق على الجرود المفتوحة قريباً.

لكنّ الخطة الداخلية لأردوغان ليست سهلة التطبيق، ذلك أنّ الواقع الاقتصادي عاد صعباً فيما شكلت طبقة التجار والاقتصاديين إحدى أهم ركائز صعود نجم أردوغان. كذلك فإنّ قسماً كبيراً من أنصار أردوغان وقفوا الى جانبه رفضاً للحكم الديكتاتوري وقساوته، ما يعني أنهم لن يستبدلوا ديكتاتوراً بآخر.

في اختصار، تركيا التي قد يكون أرادها البعض رقماً عسكرياً في المعادلة الإقليمية الجديدة والتي باتت تضمّ إيران، تتّجه الى ورشة داخلية صاخبة ستشغلها لفترة لا تقلّ عن السنة. معادلة كان يجرى التحضير لها ربما لتواكب وصول إدارة أميركية جديدة.

لكنّ ذلك لا يعفي الإدارة المقبلة من تدشين وصولها بتكريسٍ للتسوية الموعودة في سوريا، في ظلّ تعب كلّ الأطراف المشاركة في النزاع السوري، إضافة الى واقعٍ تركي جديد وانشغال أنقرة بورشتها الداخلية.

لكن قبل ذلك أشهر طويلة سيسودها نزاع انتخابي عاصف وعنيف وخطير داخل الولايات المتحدة الأميركية وفي موازاة ذلك اشتداد المعارك في سوريا بين الأطراف المتقاتلة والمنهمكة، خصوصاً في حلب، لتحسين الشروط الميدانية وترجمتها في المعادلة السياسية المنشودة عند طرح التسوية على طاولة التفاوض.

عام 1986 وخلال الحرب اللبنانية، دخلت تركيا على خط الداعين الى تشريع مطار «حالات» وعرضت يومها فتح خطٍّ جوّي مباشر بين «حالات» وقبرص التركية من خلال رحلات منتظمة لطائرات صغيرة. فمن جهة تثير أنقرة دمشق ومن جهة أخرى تفتح الأبواب أمام أجواء قبرص التركية.

رفض رئيس الحكومة رشيد كرامي يومها خطوة تشريع المطار، ولم يكن السفير الأميركي في لبنان بعيداً عن قرار كرامي. وبعد فترة قصيرة اغتيل كرامي وساد اعتقادٌ ديبلوماسيٌّ بأنّ أحد أسباب اغتياله كان رفضه تشريع المطار في حالات.

كانت واشنطن وما تزال ترفض أيَّ تمدّدٍ تركي أبعد من مجالها الحيوي الحقيقي والواقعي.