IMLebanon

الجنوب اللبناني ساحة حرب مفتوحة.. وباريس متضامنة مع بيروت

الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975 (5)

الجنوب اللبناني ساحة حرب مفتوحة.. وباريس متضامنة مع بيروت

لم يكن فشلُ تطبيق «اتفاق القاهرة»، هو السبب الوحيد للانزلاق نحو الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. هذا الفشل، الذي تم التطرق إلى حيثياته ومخاطره في الحلقة الرابعة (عدد السبت الماضي)، من ضمن سلسلة مقالات «الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي (…)»، كان جزءا من أسباب متداخلة.

بالإضافة إلى تراكم العوامل السياسية والاجتماعية الداخلية، هناك أيضاً تصرّف إسرائيل منذ ما قبل 1970 وحتى ما بعد 1974. فلو تزامن فشل «اتفاق القاهرة» مع جهود دولية جدّية ومع وجود استعداد إسرائيلي فعلي لتحقيق السلام العادل والشامل والاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، لكان وقْعُ الفشل والتجاوزات الفلسطينية مختلفاً على الوضع اللبناني. لكن أزمة النشاط الفلسطيني المسلح في لبنان تداخلت مع تعنّت إسرائيلي تمثّل في أمرين: رفض مطلق لفكرة الدولة الفلسطينية، وانتهاج سياسة عسكرية عدوانية، أدت إلى صبّ الزيت على النار، في وقت كان فيه لبنان أحوج ما يكون إلى تضافر الجهود الدولية والإقليمية لإخماد الحريق.

هكذا تحوّل لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين إسرائيل والفلسطينيين. مواجهة تخللتها عمليات كوماندوس، إطلاق صواريخ، خطف طائرات، مهاجمة سفارات، احتجاز رهائن، تفجيرات واغتيالات، أعمال انتقامية، غارات جوية وتوغلات برية وبحرية، احتلال وضربات وقائية..

شكلت هذه الأحداث «تهديداً للسلام والأمن الدوليين»، واستدعت بالتالي تدخل مجلس الأمن من أجل حل أزمة الشرق الأوسط. لكن دور مجلس الأمن افتقد للحزم واصطدم بموقف أميركي رافض لمعاقبة إسرائيل. أما المبادرة المرجوة من الأمم المتحدة، فقد تمت التضحية بها على مذبح سياسة أميركية فضلت حلاً منفرداً بين مصر وإسرائيل، وسعت إلى ضرب منظمة التحرير الفلسطينية بدل وضع حد للاحتلال الإسرائيلي.

تضيء هذه الحلقة على موقف الديبلوماسية الفرنسية إزاء الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان بين العامين 1970 و1974، حين كان يتم طرحها أمام مجلس الأمن، وتعالج التباينات الفرنسية ـ الأميركية في هذا الشأن.

في السنوات الخمس التي سبقت اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975، أصدر مجلس الأمن تسعة قرارات حول لبنان (279/280/285/313/316/317/332/337/347). تضمنت بعض القرارات إدانات لإسرائيل بسبب لجوئها إلى أعمال انتقامية والاستخدام المفرط للقوة. بعض القرارات اتخذ تدابير مؤقتة مثل المطالبة بوقف عمليات عسكرية جارية. البعض الآخر استنكر كل أشكال العنف وطالب بالعودة إلى الوضع السابق للأعمال القتالية، أي احترام اتفاقية الهدنة (1949)، أو احترام قرارات مجلس الأمن حول وقف إطلاق النار (1967). تجدر الإشارة إلى أن التدابير التي نصّت عليها القرارات الدولية حول لبنان اتسمت بطابع توصيات أو قرارات ولم تتطرق إلى عمق الصراع الإقليمي.

دور مجلس الأمن

هذه القرارت لم تتخذ بموجب الفصل السابع لشرعة الأمم المتحدة، الأمر الذي أضعف مفعولها. دور مجلس الأمن لم يساهم بالتالي في الحيلولة دون تكرار إسرائيل لعملياتها العسكرية. بمعنى آخر، عدم فعالية دور مجلس الأمن تجاه المسألة اللبنانية، وعدم قيامه بما يلزم من أجل إيجاد حل للقضية الفلسطينية، كانا من بين الأسباب التي أدت إلى تحوّل أزمة النشاط الفلسطيني المسلح في لبنان، والتوترات الأمنية الداخلية المرتبطة به، إلى صراع مسلح وحرب أهلية في العام 1975.

هذا الاستنتاج يقود إلى طرح السؤال حول المباحثات الديبلوماسية التي كانت تواكب عملية مناقشة مشاريع القرارات الدولية. هل كان الأعضاء الدائمون، مثل فرنسا والولايات المتحدة، عازمين على حل الأزمة أم الاكتفاء بإدارتها؟ طبعاً، لا يمكن لهذه السطور أن تقدم معالجة شاملة ووافية لهذه الإشكالية. لكن بعض المداولات والمواقف التي تكشفها وثائق الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي تسمح بإضاءة ما على سلوك فرنسا والولايات المتحدة إزاء المسألة اللبنانية.

تجدر الإشارة إلى أنه بين العامين 1970 و1974، صوتت واشنطن على أربعة قرارات من أصل تسعة، فيما امتنعت عن التصويت خمس مرات. واستخدمت حق النقض لإسقاط مشروع قرار في أيلول 1972. في المقابل، صوتت فرنسا على كل تلك القرارات الدولية من دون استثناء.

تسمح محتويات أرشيف الـ «كي دورسيه» بالاستنتاج أن موقف واشنطن كان يتسم دائماً بطابع تبريري للأعمال الانتقامية الإسرائيلية رداً على العمليات الفلسطينية، في حين كانت باريس ترفض أي شكل من أشكال التبرير. لم يشجّع الأميركيون رسمياً إسرائيل على تنفيذ عمليات ثأرية عسكرية غير متكافئة مقارنةً مع عمليات الكوماندوس الفلسطينية. لكنهم لم يقبلوا بأي إدانة حازمة لإسرائيل بسبب تصرفها المخالف للقانون الدولي. في المقابل، كان الفرنسيون يعارضون بحزم الأعمال الانتقامية غير المتكافئة مقارنةً مع هجمات الفلسطينيين، من دون أن يعني ذلك أنهم أيّدوا، ولو بشكل ضمني، الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان.

«عقوبات على إسرائيل»

دفعت نقمة الفرنسيين في آذار 1972 إلى التفكير في إمكان التشدد حيال إسرائيل. ويتضمن تقرير ديبلوماسي موجه الى الخارجية الفرنسية ملاحظة مفادها أن مجلس الأمن أخذ يكرر نفس الصيَغ منذ القرار 262 في 31 كانون الأول 1968 (على خلفية العملية الإسرائيلية ضد مطار بيروت). جاء في التقرير المذكور أن مجلس الأمن يعترف تارةً «بحق لبنان في الحصول على تعويضات مناسبة» بسبب الدمار الناجم عن الضربات الاسرائيلية، ويكتفي تارة أخرى «بتلميح غير مباشر إلى إمكانية (فرض) عقوبات في حال تكرار (الاعتداءات الإسرائيلية)».

الا أن عدم فعالية هذه التدابير، دفع الديبلوماسيين الفرنسيين إلى البحث في فكرة «تبني تدابير مشار إليها في الفصل السابع (من شرعة الأمم المتحدة)». لكنهم كانوا على يقين بوجود أمل ضئيل بإمكان تبني مجلس الأمن عقوبات ضد إسرائيل، بسبب «النقض المحتمل من جانب الولايات المتحدة». فالمقاربة الأميركية تختلف جذرياً عن المقاربة الفرنسية لموضوع التوتر على الحدود الجنوبية.

كانت واشنطن تعتبر أن الكرة في ملعب اللبنانيين. فهؤلاء «يعرفون تمام المعرفة، بحسب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، جوزف سيسكو، أين يتواجد الفدائيون المسؤولون عن (تنفيذ) الاعتداءات ضد القرى الإسرائيلية». أقر سيسكو، خلال محادثات مع سفير فرنسا في واشنطن، شارل لوسيه، في آذار 1972، بأن مسألة التصرف «تجاه المقاومة (الفلسطينية) المسلحة يطرح، بالتأكيد، مشكلة سياسية عويصة» بالنسبة للبنان. لكن، بالنسبة لواشنطن، إذا امتنعت السلطات اللبنانية عن التحرك، فإنّ الإسرائيليين سيكررون عملياتهم، مؤكداً أن «لا شيء ولا أحد قادر على منعهم» من شنّها. لذلك، شدد سيسكو على ضرورة اتخاذ تدابير جديدة في لبنان من أجل معالجة نشاط الفدائيين، أي وضع حد له.

الفيتو الأميركي

تجلى الاختلاف الفرنسي ـ الأميركي أيضاً حين شنّت القوات الإسرائيلية عدواناً ضد لبنان، في أيلول 1972، تحت ذريعة الرد على عملية ميونيخ التي نفذها الفلسطينيون بمناسبة الألعاب الأولمبية في ألمانيا، في محاولة لخطف رياضيين إسرائيليين (…). أما عملية ميونيخ فأتت رداً على اغتيال «الموساد» للكاتب والمثقف والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني في تموز 1972… في هذا السياق، باشر مجلس الأمن اجتماعاته لبحث شكوى لبنانية وأخرى سورية ضد إسرائيل (التي قصفت أيضاً الأراضي السورية).

أثناء المداولات الديبلوماسية، أورد سفير فرنسا الجديد في واشنطن، جاك كوسيسكو موريزيه، معلومات مفادها أن «الولايات المتحدة لا تستنكر الأعمال الإسرائيلية الموجهة فقط ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة والمتمركزة على الأرض اللبنانية»، بحسب وجهة النظر الأميركية فإنه وفي ظل «إعلان (سلطات) بيروت عجزها عن التحرك بفعالية من أجل منع الفدائيين من تشكيل تهديد لإسرائيل، فيجب عليها بالتالي أن تقبل بتدخل الدولة (العبرية) بدلاً منها». لكن برقية السفير الفرنسي تشير إلى أن الوضع قد يختلف بالنسبة لواشنطن، «في حال استهدفت الهجمات الإسرائيلية الجيش اللبناني أو إذا لجأت القوات الإسرائيلية إلى احتلال دائم لجزء (من جنوب لبنان)». بمعنى آخر، تعترض الولايات المتحدة على أي انتهاك لسلامة الأراضي اللبنانية، لكنها تعتبر في الوقت نفسه أن «العمليات العسكرية الإسرائيلية المحصورة، باتقان، في الزمان والمكان» لا تمس بسلامة الأراضي اللبنانية.

بناء على ذلك، مارست واشنطن حق النقض («الفيتو») في مجلس الأمن ولم تكن مستعدة للضغط إطلاقاً على إسرائيل. فيذكر موريزيه في برقيته أن مسؤول مكتب الشؤون الإسرائيلية في وزارة الخارجية الأميركية كان يدعو جميع محاوريه، اللبنانيين وغيرهم، إلى عدم التوهم في شأن فعالية التدخلات (الديبلوماسية) الأميركية، وغيرها، لدى إسرائيل»، لأن «القوات الإسرائيلية لم تنسحب (في أيلول 1972) إلا بعد إتمام مهمتها».

هذه المواقف تعكس اختلافاً واضحاً بين الرؤيتين الأميركية والفرنسية. تعقيباً على عملية التوغل الإسرائيلي داخل لبنان في أيلول 1972، أكد وزير الخارجية الفرنسي، موريس شومان، أن بلاده، التي تدين الإرهاب (عملية ميونيخ)، تعتبر أنه من غير الممكن تبرير عمليات انتقامية عسكرية (إسرائيلية) ضد بلد (لبنان) لم يصادق، في أي وقت، على أعمال العنف (الفلسطينية)». لذلك، وخلال لقاء مع نظيره الأميركي وليام روجرز، في 22 أيلول، في الولايات المتحدة، انتقد شومان تصرّف إسرائيل، معتبراً أنه من مصلحتها أن «يبقى لبنان مستقلاً ومعتدلاً».

«الضربات الوقائية»

كانت فرنسا تحمّل إسرائيل مسؤولية أساسية لتدهور الوضع في لبنان. كانت تستنكر اعتماد إسرائيل لأسلوب تسبّب في تنامي العنف وإفشال جهود السلام. الانتقاد الفرنسي تمحور بشكل خاص حول لجوء إسرائيل إلى ما تسمى «الضربات الوقائية»، اعتباراً من تشرين الأول 1972. لذلك، اعتبرت الديبلوماسية الفرنسية أن من شأن «الضربات الوقائية» أن تسيء إلى الاستقرار، وأن تشجع التيارات المتشددة في منظمة التحرير لاستعادة حرية النشاط المسلح على الحدود. أحد أخطر مساوئ هذا السلوك الإسرائيلي المخالف للمعايير الدولية، أنه، بنظر باريس، «يتسبب بمزيد من إضعاف سلطة الدولة اللبنانية المركزية».

توقعات باريس كانت في محلّها. فاعتباراً من العام 1973، اشتدت دوامة العنف وأصبح الأمل في تحقيق سلام شامل وعادل أكثر من ضئيل، بسبب ما يسمى بـ «سياسة الخطوات الصغيرة»، التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر (الحلقة السادسة والأخيرة ستستعرض نتائج سياسة التعنت الإسرائيلية وعجز مجلس الأمن على الوضع اللبناني اعتباراً من عام 1973.. وصولا الى اندلاع الحرب الأهلية).