IMLebanon

فضاءات المدينة المشوّشة

تتعدد فضاءات المدينة، خاصة العاصمة؛ من الفضاء العمراني إلى الذاكرة التاريخية إلى المجال السياسي، إلى المجال الاجتماعي. لكل فضاء رواية. وكل رواية تخدم رؤية سياسية حول ما كان، وما يكون، وما يجب أن يكون. تختلط في رؤية الماضي الحقائق بالأوهام، والمشاعر بالتزوير؛ ينطبق الأمر نفسه على رؤية الحاضر والمستقبل. ومع تأجيج المشاعر وازدياد الاحتقان الاجتماعي، يسهل استغلالها لأهداف مفيدة أو غير مفيدة.

الفضاء العمراني تطور مما قبل الحرب الأهلية حين كان وسط العاصمة في حالة ترهل مما حدا بالحكومة إلى إصدار قانون الشركات العقارية عام 1964؛ لكن الحرب الأهلية دمرت هذا الوسط، وجاء ما بعد اتفاق الطائف حين أصبح الإعمار نتيجة حتمية؛ على الأقل لمن يتحمل المسؤولية، لا الرسمية وحسب، بل المسؤولية الوطنية والاجتماعية. كثيرون من حاملي النوستالجيا لما قبل الحرب الأهلية لم يكونوا قد وُلدوا بعد، فما «يتذكرونه» هو صورة في رؤوسهم. حين يدان العمران، يهمل هؤلاء أن الرأسمال كان باستطاعته شراء الخراب بأقل كلفة مما احتاجه العمران. وهذا يحدث في معظم مدن العالم التي خربت أوساطها من دون حرب أهلية فوقعت بيد الرأسمال.

إن الحنين إلى ما قبل 1975 هو حنين إلى الأسباب التي أدت إلى الحرب ودمار الحرب الأهلية.

أما في فضاء الذاكرة التاريخية، فالرواية المنتشرة لدى البعض، وهم كثرة، هي إنكار الحرب الأهلية إما بالقول إنها حرب الآخرين على الأرض اللبنانية، أو بادعاء أنها لم تكن ذات أثر على تطور لبنان، مجتمعاً ودولة. تعوّدنا على الحذف والإضافة في رواية تاريخ لبنان. مثلاً، يُحذف الشيعة من هذا التاريخ على مدى القرون الأربعة الماضية وتقتصر «أصول» لبنان على المعنيين والشهابيين وأتباعهم؛ وما عدا ذلك يعتبر من اللواحق؛ وهؤلاء لا حق لهم في تقرير مصائر بلد لم يكونوا في أصله. الرواية التاريخية فيها تزوير، وليس هنا مجال الاسترسال في ذلك.

في الفضاء السياسي تختلط عناصر الرواية بين الفساد وسوء التمثيل السياسي وإعادة تكوين السلطة. يغيب مفهوم الدولة، وهذا يتكرس أساساً بغياب رئاسة الجمهورية. النظام غير الدولة، وهو شغال بأجهزته الأمنية والبيروقراطية والمالية. يغيب السؤال: هل يستطيع النظام الاستمرار من دون مفهوم الدولة؟ صحيح أن الدولة مفهوم مجرد لكنه الوحيد الذي يضمن العيش المشترك ويحوله من رغبة إلى واقع. لكن التشويش سيد الموقف. يغيب عن البال أن الصراع على السلطة يجب أن يكون في إطار الدولة. فإذا غابت الثانية، كيف يكون مآل الأولى؟ أمام هذا التساؤل تنهار مقولة محاربة الفساد، إذ لا يعود أحد مسؤولاً عن شيء، عن جريمة أو عن فعل مفيد.

أما الفضاء المجتمعي ففيه التشويش الأهم: تُرفض التسويات وتراكماتها والإنجازات التي رافقتها. يُراد لنا كلبنانيين أن نبدأ من جديد، أن نعود إلى نقطة الصفر، التي لا نعرف في الحقيقة أين هي: ما بعد الطائف أم قبله؟ ما بعد الاستقلال أم قبله؟ ما بعد إعلان لبنان الكبير أم قبله؟ ما بعد المتصرفية أم قبلها؟ كأن المطلوب «هندسة اجتماعية»، متناسين خطورة هذا التعبير الذي تمارسه عادة أنظمة الطغيان والتوتاليتارية. هندسة المجتمع شيء، والتعبير عنه شيء آخر. في الأولى تحكم ديكتاتورية، وفي الثاني ديموقراطية ومجال الحريات. ومن يدعي «توعية المجتمع» يستعمل قضية كبيرة لأهداف صغيرة. يحتاج المجتمع إلى التعبير الحقيقي عنه لا إلى «توعيته» وإعادة هندسته. يهندس المجتمع من خلقه فقط. وهذا أمر بعيد المنال.

فضاءات أربعة، لكل منها رواية شائعة. تشويش الوعي صار عمومياً. الوطن الدولة والمجتمع في حالة غير مسبوقة لا مكان فيها للثورة بل للإصلاح. يصعب توقع المستقبل حين يكون الراهن غير مسبوق، دخلنا في المجهول. الإرادة مشلولة. السياسة ملغاة. أين المفر؟

سؤال «أين المفر» هو في ذهن كل اللبنانيين.