IMLebanon

ستريدا جعجع.. حكاية الحكاية

لي موعدٌ لا أخلفه في الحادي والعشرين من نيسان، ذكرى اقتياد نظام الاحتلال السوري الدكتور سمير جعجع إلى معتقله في وزارة الدفاع، في العام 2005 وبُعَيْد خروج لبنان و»الحكيم» من الزنزانة الكبرى للاحتلال، أصغيتُ مطوّلاً لصديقتي العزيزة أنطوانيت وهي تروي حكاية جلجلة ستريدا جعجع منذ اللحظة التي خطا فيها «الحكيم» مع مُعتقليه في طريق جلجلته، ومن دون أدنى شكّ ما حكتْ لي أنطوانيت ترك فيّ أثراً عميقاً جدّاً، وأنطوانيت «الشّاهد ـ الراوي» على أحد عشر عاماً من النضال الحيّ لامرأة وقفت وحيدة في عين الإعصار الذي دهم حياتها وصباها ويومها وليلها في لحظة لم نكن لنصدّق أنّها حقيقيّة، لأنّنا لم نفكّر لحظة بأنّ نظام الاحتلال السوري قد يبلغ هذا الحدّ من التوحّش بقتل المصلّين في كنيسة سيّدة النجاة لإدخال سمير جعجع إلى السّجن لإذلاله وتكسير رأس اللبنانيّين من كبيرهم إلى صغيرهم!

كأنّ حال الحكيم في تلك اللحظات حال جميل بن معمر يقول: كأنّه جميل بن معمر يروي مفارقته لها:

«إنّي، عشيّةَ رُحتُ، وهي حزينة/ تشكو اليَّ صبابةً، لصبورُ/ وتقول: بِتْ عندي، فديتك، ليلة/ أشكو إليك، فإنَّ ذاك يسيرُ»…

ولم تكد قدم «الحكيم» تخطو عتبة مقرّه في غدراس، حتى أضحت المرأة والزوجة الشّابة التي سلّمها شعلة القوات اللبنانيّة لتضيئها في ظلام لبنان الدّامس، وحدها ووجهاً لوجه مع الشباب المنهارين الذين تلّقوا آخر أوامر قائدهم بالتزام الهدوء، كان على ستريدا جعجع أن تتخطّى لحظة هستيريا الحزن التي تضربها بعنف، للمناسبة، لم يسمح لهذه السيّدة حتّى أنَّ تختلي بمخاوفها وقلقها ومصيرها وآلاف علامات الاستفهام حول مصير زوجها، وهي ربّما أدركت على الفوْر في تلك اللحظة أن قيادتها لمسيرة القوات اللبنانيّة بدأت على الفور، وكان عليها أن تحتوي هؤلاء الشباب المحيطين بها غير المصدّقين أنّهم استسلموا وتركوا قائدهم يذهب وحيداً باتجاه المجرم المعلوم والمصير المجهول.

لطالما رغبتُ في طرح سؤالٍ شخصيّ على الدكتور سمير جعجع، «لماذا اخترت ستريدا تحديداً لقيادة سفينة القوات وسط هذا الإعصار الهائج؟»، بالرّغم من أنّي أمتلك مئات الإجابات على هذا السؤال، وأثق أنّه الأكثر معرفة بصلابتها وأنّها ستحفظه وتحفظ قضيته وتحفظ القوّات اللبنانيّة من «الإسخريوطيّين» الكُثر، قد كشفت سنوات اعتقال الحكيم تناسل العشرات من «يهوذا» اضطرّت ستريدا لمواجهتهم وحيدة لتحفظ القوّات اللبنانيّة من مساعي تقسيمها تمهيداً لتدميرها على طريقة الاحتلال السوري في تقسيم الأحزاب اللبنانيّة والمنظمات الفلسطينيّة، واجهت وصدمتهم مواجهتها وصلابتها، كما صدمهم تمسّكها بالرّجل القابع في زنزانةٍ في الطابق الثالث تحت الأرض لسنوات وهي تراه من خلف زجاج عازلٍ لم يسمح لهما حتى أن تمدّ يدها لمصافحته، وصدمهم أنّها اختصرت ذاتها وكيانها حاضرها ومستقبلها من أجل قضيّة رَجُلِها سمير جعجع، ما الذي لمسته ستريدا في هذا الرجل حتى ارتضت أنّ تواجه الاحتلال السوري ونظامه المخابراتي، والنظام الأمني اللبناني التابع للاحتلال السوري وهو «خسّة وندالة» من نظام الاحتلال!

تجربة ستريدا مع «الحكيم» جعلتنا ندرك جوهرهما في هذه التجربة، خصوصاً أن الكثير من ذكور الجبال العالية لم يعجبهم أن توضع القيادة أمانة بين يديْ إمرأة، كيف لم ينتبه هؤلاء أنها ستريدا ليست مجرّد إمرأة، هي إمرأة من بشرّي حيث صلابة الصخر وخلود الأرز، ليست أيّة إمرأة، هي من مقلع الرجّال الرّجال، شخصيّاً آمنتُ دائماً بما قاله نبيّنا الأكرم صلوات ربّي عليه: «النساء شقائق الرجال»، هذا في المساواة في الحقوق والواجبات، وفي غير ذلك قد تساوي امرأة واحدة آلاف الرجال، وستريدا جعجع تساوي آلاف الآلاف منهم.

21 نيسان يطبع وجدان لبنان بوجْهي سمير وستريدا، لم يقنعني يوماً أدب الترسّل، ولست معجبة أبداً برسائل جبران خليل جبران إلى ماري هاسكل، التي لو تمّ ترجمتها إلى العربيّة فلن يعود جبران هو نفسه الذي كنّا نظنّه، لكنني أتمنّى لو يقدم الحكيم وستريدا على إعداد كتاب يجمع بين دفّتيه جلجلة بلغت أحد عشر عاماً، ستكون هذه الرواية المخمليّة لهذا العشق الذي تجاوز مفازات وأهوال كبرى ونجا، ونجونا نحن ولبنان معه.