IMLebanon

البيت السنّي بعد البلديات: هل يُعطي المفتي نسخة عن المفتاح للشارع؟

على طريقة «داب التلج وبان المرج» وبعد ما أظهرَته الانتخابات البلدية مِن تباعُد بين رأس الهرم والقاعدة، تُعتبَر عبارة «ترتيب البيت السنّي» الأكثرَ تداولاً على ألسِنة رموز هذه الطائفة. فقبلَ أن يُعلن رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري عن «فتح دفاتر» وإعادة تنظيم التيار، يواصل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان لمَّ شملِ الطائفة، عبر حركة استقبالات واسعة افتقدَت لها «الدار» في السنوات الأخيرة. أمّا عن طبيعة الزوّار، فَإنّ «مولانا بيِستقبل أقصى اليمين وأقصى اليسار»؛ وهذا ما يُجمِع عليه موظّفو الدار.

يُشارف مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على دخول العام الثالث لتوَلّيه سدّةَ الإفتاء، وطموحُه أوسَع من استكمال حملة ترتيب ضمن «جدران الدار»، وأبعدُ من صفوف «تيار»، إنّما هدفُه إعادة البوصلة إلى الدار في ترتيب صفوف أبناء الطائفة، بعد ما أصابَها من ترَهّل، وولَّد تباعداً بين رأس الهرم والقاعدة، منطلِقاً من قاعدة: «لا يمكن استبعاد أحد من أبناء الطائفة أو تهميشُه».

من أين يبدأ ترتيب البيت؟

إلى جانب هذه القاعدة الأساسية التي أرخَت الاطمئنان في نفوس معظم الأطراف السنّية، بصرف النظر عن حساباتها السياسية، صبَّ دريان اهتمامه على إعداد الأرضية اللازمة لضمان ترتيب البيت، خصوصاً بعد الصراع الذي نتجَ بين سَلفه وجزءٍ كبير من الطائفة السنّية، فانعكسَ إحجاماً من القوى السياسية في التردّد إلى الدار.

ويَنقل أحد القريبين من دريان لـ«الجمهورية»: «أدركَ سماحتُه باكراً أنّ ترتيب البيت السنّي لا يقتصر على الانهماك في تنظيم الدار والمؤسسات التابعة لها، وانتخاب مجلس شرعي، والتمسّك بالحديث عن الإسلام المعتدل، إنّما يكون من خلال نسجِ علاقات متينة مع مختلف الفاعليات السنّية، أوّلُهم رؤساء الحكومات السابقة ورئيس الحكومة الحاليّة، بالإضافة إلى القوى السنّية القريبة من «8 آذار» والقوى الحزبية القريبة من محور الممانعة».

أمّا عن الغاية من نسجِ تلك العلاقات، فيوضح المصدر: «الهدف إرساء قاسم مشترك بين الأطراف السنّية كافّة، للانطلاق من أرضية مشترَكة لترتيب البيت»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ دريان «لم يُسقط من حساباته حسنَ العلاقة مع القوى الشيعية والمسيحية ومختلف شركائه في الوطن، بما يُمكّنه من أن يُعيد للدار ما فَقدته في سنواتها الأخيرة».

أمّا عن الدور الذي تطمح إليه «الفتوى»، فيؤكّد المصدر: «لا طموح للمفتي أن يأخذ مكان أحد، وكلّ ما يبغيه وحدة الصفّ الإسلامي، من دون أيّ غايات سياسية، وكلّ ما ترنو إليه الدار هو أن تكون دعامةً وقاسماً مشتركاً بين القوى الإسلامية والإسلامية المسيحية كافة، بعد كلّ ما أصابها في أواخر عهد المفتي محمد رشيد قبّاني».

البلديات… «أكبر درس»

ما أسفرَت عنه نتائج الانتخابات البلدية لم يُشكّل صدمة لتيار «المستقبل» فحسب، إنّما لدارِ الفتوى وإنْ مِن منظار مختلف، فيوضح المصدر: «لم يتجاوب الشارع السنّي مع ما قد سبقَ أن أوعزَت به الدار في دعمِ لائحة «البيارتة»، ولا حتّى مع نداءاتها للمشاركة في كثافة، إذ لم تتجاوز نسبة المقترعين 20 في المئة، ونتيجة عدم التجاوب، بَرزت حاجة الدار إلى إعادة حساباتها وخلقِ تماسٍ أكبر مع القاعدة السنّية، والحاجة نفسُها برزت لدى تيار «المستقبل».

في المقابل، يُقارب أحد المفتين المسألة في اتّجاه مختلف، على اعتبار «أنّ الدار تعطي إشارةً باتّجاه محدّد، وتوجّه قدرَ الإمكان من دون أن تفرض رأيَها، إلّا أنّ الشارع البيروتي بطبيعته مزاجي، لا يأخذ الأمور على عاتقه إلى النهاية مع أو ضد، إنّما يتقلّب مزاجه بحسب الظروف، وابتعاد رأس الهرم السنّي السياسي عن البلد فترةً زمنية طويلة أثّرَ في مستوى تفاعلِ الجمهور».

أيّاً تكن الدروس التي استقَتها الدار من نتائج الانتخابات البلدية، يؤكّد المصدر القريب من المفتي، «إصرارَ دريان على أن تكون الدار حاضنةً ومباركة لأيّ «نفضة» تَطمح إليها القيادات السنّية خصوصاً والإسلامية عموماً». ولا ينكِر المصدر أنّ ترتيبَ البيت «لن يكون ورديّاً، إنّما هو محفوفٌ باختلافات في وجهات نظر أبناء البيت، وتَعدُّد «الطبّاخين»، بعدما تبلورَت أحجام سنّية جديدة».

بين ريفي والحريري؟

أمّا لجهة أسلوب تعامُل دريان مع الأحجام الجديدة، فيجيب المصدر مستعيناً بالعامَين اللذين أمضاهما المفتي في «الإفتاء»، قائلاً: «لم يضَيِّع وقتَه، وتَمكّن مِن إبقاء نفسِه على مسافة واحدة من مختلف أبناء طائفته، وزيارةُ الوزير أشرف ريفي إلى الدار بعد نتائج انتخابات الشمال، تؤكّد نجاح سياسة المفتي في فتحِ علاقات متينة وثقة متبادلة مع رعيته، على طريقة «هيدي العَين وهيدي إختا»، غيرَ مستبعِد المصدر «سعيَ المفتي للقاء مباشَر يَجمع بين الحريري وريفي، بما يصبّ في خدمة الطائفة، أو غير مباشَر عن طريق إفطار، لا سيّما وأنّ ريفي جزء لا يتجزّأ من المدرسة الحريرية».

يراهن دريان على سياسة الانفتاح في تعاطيه مع الأطراف كافة، إذ وجَد أنْ ليس بوسعه إلّا أن يأخذ المواقف التي تتناغم مع غالبية الطائفة السنّية، وإن انعكسَ ذلك انزعاجاً وامتعاضاً أحياناً لدى البعض».

ويوضح المصدر: «حتى هؤلاء المنزعجون من بعض مواقفه الداخلية، أو الإقليمية باتوا يقدّرون الموقعَ الذي فيه سماحته، فضلاً عن ضغط الشارع، خصوصاً عندما تبلغ الأمور صراعاً بين النفوذ الإيراني والسعودي على الساحة اللبنانية، فحتى «8 آذار» تُقدِّر أنّه لا يمكن لموقف المفتي إلّا أن يكون ضمن إطار التوجّه السياسي العام للطائفة، أي داعماً للمملكة العربية السعودية».

تحدّيات خارجية… وداخلية

صحيحٌ أنّ عين المفتي ساهرة على استكمال ترتيب البيت السنّي، لكنّ فكرَه منشغل بجملة تحدّيات خارجية، منها التصدّي للتطرّف الذي يفرض وجودَه بقوّة، وهذا يُضاعف مسؤوليتَه في تمسّكِه بلواء الاعتدال. ويقول المصدر: «لا يقف المفتي عند اسمِ الجهة، سواء «داعش» أو غيرها، إنّما عند مختلف الأشكال والمظاهر المسيئة للإسلام وللعيش المشترك».

مع الإشارة إلى «تحدّيات داخلية، مثل تحسين ظروف المشايخ وتطوير وضعهم، والتنبُّه إلى تشكيل بعض العلماء لهيئات وجمعيات وجماعات في المناطق، تكاد تأخذ أحياناً دورَ الدار، بالإضافة إلى تعديل في الوظائف الإدارية وملءِ الشغور.

من دون أن يغيبَ عن هواجس المفتي الشِقُّ المالي، ولو أنّ الدار تسير وفقَ: «إستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، فما أصابَها مِن هدرٍ ماليّ وفساد إداريّ لا يزال يثقِل كاهلها، وعامان لا يكفيان لإعادة الأمور إلى سِكّتها الصحيحة، مضافاً إليه الشِقُّ الأمنيّ المتمثّل بالأمن المتفلت».

في موسم ترتيب البيوت وإعادة الحسابات، تمرّ السنوات، والوطنُ ساحة مستباحة، لا حساب لحرمة بيتِه، ولا لرئيس جمهورية يحافظ على ما تبَقّى منه.