IMLebanon

سورية بعد ليبيا… هل تنجح «الوصاية الدولية»؟

اتفاق الصخيرات لا يشكل امتحاناً للقوى الليبية المتصارعة وحدها. إنه امتحان للإرادة الدولية أولاً وأخيراً. الأمم المتحدة رعت التوقيع بمن حضر، مع علمها سلفاً أن قوى وازنة معترضة غابت. انتظرت القوى الكبرى، الاتحاد الأوروبي خصوصاً، أكثر من سنة ونصف السنة. واستهلكت الأزمة جهود ثلاثة مبعوثين دوليين. وعاد الموقعون في المدينة المغربية إلى مرحلة انتقالية جديدة من سنتين. ولا شيء يضمن ألا تتكرر تجربة المرحلة الانتقالية الأولى التي انتهت بتعميق الأزمة ومزيد من التشظي والتفتيت. أولى بوادر التشظي أن الاتفاق الجديد أعاد خلط الأوراق وسيعيد رسم خريطة مختلفة للقوى المتصارعة أو المتحالفة. فالمعترضون عدّوه «تقاسماً» للسلطة بين «الإخوان المسلمين» و «تحالف القوى الوطنية» (الليبرالي). وأخذوا على المبعوث مارتن كوبلر تهميشه قوى وتيارات وطنية وجهوية وكتلاً قبلية كان الحديث عن حضورها وقدرة تأثيرها في المجالين السياسي والميداني… فضلاً عن الفصائل المقاتلة على الأرض، وما أكثرها.

الاتفاق الذي يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية ستقود المرحلة الانتقالية ينظر إليها المعترضون قبل ولادتها أنها «حكومة وصاية». ودعوا إلى استكمال الحوار الليبي – الليبي الذي يقوده عقيلة صالح، رئيس البرلمان المعترف به دولياً والمقيم في طبرق، ونوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني المنتهية ولايته والمقيم في طرابلس. والرجلان اللذان لم يتفقا على تسوية طوال أشهر التقيا فجأة في مالطا عشية التوقيع. كأنما الاتفاق «محنة» دفعتهما إلى اللقاء لطلب مزيد من الوقت! والواقع أن الأسباب التي دفعت الأمم المتحدة إلى استعجال التوقيع في الصخيرات باتت معروفة. أوروبا التي لا تبعد حدودها عن ليبيا أكثر من خمسمئة كيلومتر يقلقها تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيره من الحركات الجهادية. وهي تراقب بقلق سعي «داعش» إلى توسيع «إمارته» من سرت الساحلية الى صبراتة وأجدابيا. لكن تمدد التنظيم وما يماثله من تنظيمات نحو مناطق النفط ومدن أخرى ليس هو لب الأزمة الليبية. الإرهاب أحد العناصر الضاغطة، ولكن لا يمكن اختصارها بالحرب على الإرهاب فقط.

يدرك المبعوث الدولي كوبلر، وهو ينظر إلى صورة المحتفين بالاتفاق، أن وجوهاً كثيرة غابت عنه. وأن الموقعين وما يمثلون من قوى سياسية قد لا يملكون ما يمكنهم من مواجهة عشرات الميليشيات المسلحة المعترضة. فضلاً عن غياب قوى سياسية وقبلية واسعة عن الاتفاق. فالجنوب تقتسمه قبائل وقوى شتى، وكذلك الأمر في الشمال الغربي. فيما «أنصار الشريعة» و «داعش» يسيطران على مناطق واسعة من الشرق الليبي. وهذه لا يعنيها ما تم التوصل إليه في الصخيرات. وهو ما يزيد في غموض آليات التنفيذ ويعقدها. لا يتوقف الاعتراض عند أحمد قذاف الدم، المسؤول السياسي لـ «جبهة النضال الوطني الليبي»، المبعوث الشخصي السابق لمعمر القذافي، الذي انتقد تغييب قوى سياسية وازنة. وأشار إلى أن 75 في المئة من عديد الجيش الليبي السابق وضباطه وكوادره يقيمون في الخارج أو في بيوتهم، وكان يجب أن يكونوا جزءاً من التسوية من أجل مواجهة الإرهاب وفرض الأمن والمساهمة في الاستقرار. ولكن، ليس المطلوب أن يكرر الليبيون تجربة العراقيين باجتثاث البعث، فيعمدون إلى عزل كل من عايش أو عمل في ظل عهد القذافي، أو إلغاء مكون من المكونات الوطنية، وإلا ما معنى المصالحة التي وحدها تعيد اللحمة إلى بلد يتهدده التشظي والعودة إلى مرحلة ما قبل قيام المملكة الموحدة للأقاليم الثلاثة منتصف القرن الماضي.

وكان لافتاً أن الفريق أول ركن خليفة حفتر الذي يقود الجيش الوطني الليبي واكب التوقيع في المغرب بدعوة روسيا إلى التدخل لمحاربة الإرهاب. واضح أنه ليس راضياً. ولم يأخذ المبعوث الدولي بمطالبه وملاحظاته عشية التوقيع. كأنه بدعوته يستبق الحكومة المنتظرة في طرابلس التي يتوقع أن تطلب العون من القوى الدولية، خصوصاً الأوروبية لمحاربة «داعش» وغيره من الميليشيات التي سيكون لها دور في عرقلة الاتفاق. وربما جاء طرد قوات من «المارينز» غداة الاتفاق من غرب البلاد (منطقة الزنتان) في سياق الاعتراض أو عدم الرضا! ومن الواضح أن فرنسا وبريطانيا اللتين أخذتا على الولايات المتحدة أنها تركت العراق فريسة سهلة بيد الميليشيات الإيرانية، فعلتا الشيء نفسه بعد مساهتمهما في إسقاط «الجماهيرية». تدخلتا عسكرياً لإنهاء القذافي ونظامه، لكنهما لم تكملا المهمة وهو ما أوقع البلاد في الفوضى. وفتح مخازن السلاح أمام المنظمات المحلية والعابرة الحدود، إذ هناك من يعتقد بأن «جماهيرية القذافي» كانت مستودع السلاح السوفياتي المعد لدعم مواقع «الكتلة الشرقية» في القارة السمراء. وبات هذا السلاح أحد الأسباب الكبرى في تقويض الأمن والاستقرار في الشمال الأفريقي ودول الساحل وجنوب الصحراء.

لم يقتصر الغياب عن الاحتفال بالتوقيع على قوى محلية كثيرة. غابت عن الصورة وجوه إقليمية معنية بالأزمة وبحلها أيضاً. وهي تمتد من الجزائر إلى مصر والإمارات أيضاً. الجزائر تتمسك بوجوب ترك الليبيين أنفسهم يرسمون الحل الذي يناسبهم، علماً أنها تمر بمرحلة انتقالية تعبر عنها الصراعات بين القوى السياسية والأجهزة العسكرية والأمنية على وراثة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة العليل وعهده. وعلماً أن الجزائر ليست بعيدة من مسرح العمليات الإرهابية. كانت لها حصة كبيرة في الهجوم الذي شنه فرع «القاعدة» في المغرب العربي على المنشأة الغازية في عين أميناس مطلع عام 2013. ولن يريح القاهرة وأبو ظبي رؤية «الإخوان» ينالون نصف السلطة في طرابلس التي لا تبعد كثيراً من تونس المهددة بسقوط تجربتها الديموقراطية في أحضان حركة… «النهضة»! لذلك، يخشى كثيرون أن تؤدي المرحلة الانتقالية الجديدة في ليبيا إلى ما أدت إليه المرحلة السابقة التي لم تُعط الوقت الكافي. كان يجب قبل التوافق على الدستور وعلى استعجال الانتخابات البرلمانية، منح الليبيين متسعاً من الوقت لتحقيق مصالحات بين قوى وجهات ومكونات وقبائل عمل النظام الاستبدادي السابق على تعميق الهوة بينها. وكانت نتيجة هذه العجلة تحول البلاد «جماهيريات» جهوية وعرقية وقبلية متصارعة… ولدت ميليشيات واستدعت أخرى من خارج الحدود، من أجل الاستيلاء على السلطة. وهو ما أتاح لقوى إقليمية كثيرة التدخل دعماً لهذا الطرف أو ذاك، كما حصل ويحصل في سورية. وهو ما أخّر أيضاً التوصل إلى تفاهم وطني جامع طوال سنة ونصف السنة.

في أي حال، إن تجربة فرض القوى الكبرى التسوية من الخارج، بعد تعثر الأطراف الوطنية وعجزها عن إيجاد صيغة توافقية، أمام المحك. القوى الدولية التي كانت تشكو من خروج القوى الإقليمية من تحت عباءتها أمام تحدٍّ كبير لاستعادة المبادرة وإثبات قدرتها على فرض هذا الحل وإعادة الاستقرار إلى ليبيا. بل هي أمام تحدٍّ مضاعف لإثبات قدرتها أيضاً على تطويع القوى المحلية المتصارعة نفسها، والتي باتت عنصراً فاعلاً لا يمكن تجاوزه. في أي حال ما تسعى أوروبا إلى تجربته في ليبيا، تسعى إليه الولايات المتحدة وروسيا خصوصاً في سورية، والعراق أيضاً. أي أخذ المبادرة من أيدي اللاعبين المحليين ورعاتهم الإقليميين. ولعل الرئيس فلاديمير بوتين أكثر المتحمسين، إذ يعمل جاهداً على فرض التسوية كما يرسمها هو لبلاد الشام وليس كما يرغب فيها السوريون أنفسهم، سواء كانوا في صفوف المعارضة، أو حتى في صف النظام وحلفائه. ولكن، لا يبدو أن هذه القوى المتصارعة في سورية أو في ليبيا تعبت إلى حد الرغبة في إلقاء السلاح والترحيب بأي مخارج يفرضها الكبار عليهم. فيما واشنطن التي دعمت أوروبا في تدخلها لإطاحة معمر القذافي وقفت في الصفوف الخلفية ولا تزال. وهي اليوم تراعي لأسباب معروفة موقف موسكو في سعيها إلى حل في سورية، أكثر مما تراعي موقف حلفائها الأوروبيين وشركائها العرب، ناهيك عن موقف المعارضة السورية التي تزعم دعمها ورعايتها. فهل يستطيع سيد الكرملين الساعي إلى استعادة دور بلاده قطباً بارزاً على الساحة الدولية أن يعيد إلى القمقم هذه الدول الإقليمية الصاعدة، والساعية هي الأخرى إلى التأثير في الصراعات الإقليمية التي تعنيها مباشرة؟ وهل سيتمكن من تطويع القوى المحلية المتصارعة وإرغامها على الحلول المرسومة؟

لا شيء يضمن أن ليبيا خطت خطوة تاريخية نحو طي صفحة الماضي القريب والبعيد… فيما الغموض يكتنف جوانب كثيرة من اتفاق الصخيرات. ولا شيء يضمن نجاح ما يعده المطبخ الروسي – الأميركي من توافق غامض لإعادة المتصارعين في الإقليم في سورية إلى بيت الطاعة، كما كانت الحال أيام الحرب الباردة، أيام كان قطباها يفرضان على الحلفاء والخصوم «وصاية» لا فكاك منها سوى الانصياع لمجريات الاستراتيجيات الكبرى ومقتضيات الصراع الدولي بين الحلفين الأطلسي ووراسو. مصير الاتفاق الذي رعاه المبعوث الدولي كوبلر بوصاية دولية في ليبيا مؤشر إلى ما سيرعاه المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا بوصاية دولية أيضاً. هل اللجوء إلى «اتفاقات الضرورة» التي تفرضها الحاجة الملحة إلى الحرب على الإرهاب يشكل حلولاً دائمة لأزمات مستعصية في دول تتفكك مكوناتها وتتصارع في حروب أهلية متناسلة؟