IMLebanon

سوريا بلا روسيا تُسقط.. «أساطير الممانعة»

في الأيام الأولى للإنزال الروسي في سوريا كان هناك من يُسوّق أن في الأمر انتكاسة لإسرائيل(!)، وذهب البعض الآخر الى حد اختراع الأساطير عن غرفة عمليات «روسية- ايرانية- سورية – عراقية- بمعاونة حزب الله»، مهمّتها قيادة معركة عسكرية، يستعيد «المحور» من خلالها كامل الأراضي السورية والعراقية. لكن رغم الأقاويل الكثيرة لـ»الممانعة»(على طريقة الحكواتي)، إلّا أن روسيا لم تعطِ في أي مناسبة انطباعاً بأنها دخلت الى سوريا لتحسم المعركة لصالح الأسد، أو حتى لتحمي النظام وحلفاءه من الغارات الاسرائيلية التي زادت وتيرتها خلال الوجود العسكري الروسي في سوريا.

في احدى مقابلاته التلفزيونية، قال رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف ان وجود قوات بلاده في سوريا «يهدف الى دحر الارهاب وليس الى حماية الاسد». وفي بيانات صادرة عن الكرملين ومسؤولين عسكريين وسياسيين، أكدت موسكو مراراً أن غاراتها الجوية في سوريا تهدف الى انهاء وجود «الارهابيين»، من دون أن تأتي على ذكر النظام. أمس الاول أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان «القوات الروسية أوجدت ظروفاً ملائمة للسلام في سوريا، وقواتنا ستنسحب اعتباراً من الثلاثاء (أمس)». فماذا حدث حتى قرّر بوتين الانسحاب بهذا الشكل المفاجئ وفي هذا التوقيت؟ وأي أهداف حقّقتها روسيا في سوريا؟

مصادر دبلوماسية في بيروت تحدّثت الى «المستقبل» عن ظروف دخول الروس الى سوريا وخروجهم الجزئي منها. تقول ان قرار موسكو بالتدخل عسكرياً جاء لسببين: الأول يأتي في اطار سعيها الى فرض تسوية سياسية مستقبلية، مستثمرة وجودها على الارض، بعد ان تبيّن لها انها ليست صاحبة الكلمة الاولى في قصر بشار، بل ايران، على الرغم مما بذلته روسيا من دعم دبلوماسي وعسكري واقتصادي للنظام. والثاني، تضعه المصادر في اطار حاجة الروس الى تدخّل عسكري، بعد ان خسر الجيش السوري مطارات عسكرية كانت تغطّي المناطق الشمالية، اضافة الى وصول المعارضة الى سهل الغاب المشرف على الساحل، وحضورها القوي في جبال التركمان شمالاً، ما يهدّد الساحل والقواعد العسكرية الروسية فيه.

ترافقت العمليات العسكرية الروسية مع حراك اقليمي ودولي، أوحى بأن «طبخة» أميركية- روسية تلوح في الأفق. نجح مجلس الأمن، لأوّل مرة منذ اندلاع الثورة، بالتصديق على قرار دولي لحل الأزمة السورية، من دون اي «فيتو»، ما عكس التوافق بين موسكو وواشنطن. يومها وصفت أوساط دبلوماسية غربية القرار 2254 بـ»الضربة للمشروع الايراني» في سوريا. في احد بنوده، دعا الاتفاق الى مفاوضات سورية للتوصل الى تسوية وفقاً لبيان جنيف وبيانَي «فيينا»، وتحديد جدول زمني لوضع دستور جديد في غضون 18 شهراً، ما يعني نسف الدستور السوري الحالي الذي اشرفت طهران على صوغه عام 2012، ونسف الانتخابات التي جرت في ظل وجود «حزب الله« والميليشيات العراقية والافغانية والباكستانية في سوريا. كما دعا الاتفاق الى انتخابات سورية جديدة باشراف الامم المتحدة، ما يضرّ بمصالح ايران التي تفتقد لأي عمق شعبي او مذهبي في الداخل السوري. والانتخابات، قد تضمن حصة العلويين الذين ارتموا بالحضن الروسي، بعد ان شعروا بأن هوية البيئة العلوية باتت مهدّدة بفعل عمل ايران على صهر الطيف العلوي في «ولاية الفقيه«.

توافق الروس والأميركيون على ارساء هدنة ميدانية قد تؤسّس لإطلاق مفاوضات «جنيف3» في ظروف ملائمة. لكن ايران لم تكن مرتاحة، فالمحادثات بين واشنطن وموسكو تجعل من الدور الايراني دوراً ثانوياً وغير مقرّر في تطور الاحداث. كما ان اصرار روسيا على تقسيم المعارضة السورية بين معتدلة ومتطرفة، اضافة الى استثناء «داعش« و«النصرة« فقط من اتفاق وقف النار، لم يلق ارتياحاً لدى طهران ودمشق الطامحتين الى توسيع نطاق المنظمات الارهابية لتشمل اكثر عدد ممكن من الفصائل. ليس هذا وحده ما أجّج التجاذبات الايرانية-الروسية. فالتسريبات حول التزام المتفاوضين في «جنيف3» باجندة روسية-اميركية، وعدم اصرار الروس على التمسك بالاسد في اي تسوية مقبلة، وضع الايرانيين والنظام في معركة صامتة مع موسكو. وهذا ما بدا واضحاً في تصريحات الطرفين. فطهران ابدت شكوكاً حول امكانية تخلي موسكو عن الاسد، وهو ما اشار اليه نائب قائد الحرس الثوري الايراني الجنرال محمد علي جعفري بقوله ان «موسكو قد لا تهتم ببقاء الاسد كما نهتم نحن». يليه تصريح لوزير الخارجية السوري وليد المعلّم، والذي ظهر بمظهر مَن يتحدى موسكو، اذ قال ان «الاسد خط احمر والحكومة السورية لن تفاوض على الرئاسة«. هنا، توضح المصادر الدبلوماسية لـ»المستقبل»، ان «القرار الروسي بالانسحاب من سوريا جاء بعد ان ابدى النظام تعنّتاً بوجه موسكو التي حافظت على وجود هذا النظام حتى اللحظة». وبرأي هذه المصادر، فإن «الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من سوريا وضع بشكل واضح طهران ودمشق امام خيارين لا ثالث لهما: إما الدخول في تسوية ضمن النظرة الروسية-الاميركية، وإما إكمال معركتهما بمفردهما«.

قبل ساعات قليلة من إعلان بوتين الانسحاب من سوريا، قال مصدر دبلوماسي في دمشق لـ»فرانس برس»: «ظنّت موسكو لوقت طويل ان النظام قادر على تدبير اموره بمفرده، ولكن طهران هي من دقت جرس الانذار»، مشيراً الى ان «مسؤولين ايرانيين ذهبوا الى موسكو لابلاغ الروس انهم في حال لم يتدخلوا بسرعة، فإن النظام سينهار»! هذا في احسن الحالات يعني ان القرار الروسي بالانسحاب قد يشكل ورقة ضاغطة على دمشق وطهران للموافقة على الحل الاميركي- الروسي لانهاء الحرب، لأن لا قدرة للطرفين على اكمال الحرب بمفردهما.

بدأ الانسحاب الروسي. اساطير الممانعة بقيت اساطير. حافظ الروس على الساحل وعززوا قواعدهم فيه. ابعدوا المعارضة بضعة كيلومترات داخل سهل الغاب، واستولوا على بعض القرى في جبل التركمان، وحصّنوا الساحل. بقيت ادلب بيد الاسلاميين وفصائل المعارضة، وبقيت درعا بيد الجيش الحر، وبقيت الغوطة بيد جيش الاسلام، وبقيت حلب بيد فصائلها مع تقدم للقوات الايرانية في بعض القرى، وبقيت دير الزور والرقة بيد داعش(!). وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف رحب بالخطوة الروسية وأكد ضرورة وقف اطلاق النار والتوصل الى حل سياسي. على العالم ان ينتظر موقف الحرس الثوري وليس الاصلاحيين! وعلى المشاهدين ان يستمتعوا بتحليلات (أو تخيلات) الخبراء «الممانعين» من «عمداء متقاعدين» و»محللين استراتيجيين» أمضوا سنوات عملهم خلف المكاتب وبعد التقاعد صاروا خبراء في الحروب والجبهات يدلون بدلوهم في اطلالات على «المنار» و «الميادين« !