IMLebanon

شكراً للسفارات الغربية على دعمها الحراك غير الطائفي

نظرياً، بل الأدقّ وهمياً، يمكن لما حدث في تظاهرة يوم السبت في ساحة البرج أن يكون مادة أولية وأساسية لرواية خيالية يكتبها موهوب ما، كامنٌ في مكان ما، من هذا الجيل الجديد الذي صنع ظاهرة ساحة البرج – الشهداء الجديدة. رواية تصف كيف أخذ “النظام القديم” ينهار في ساحة “الباستيل” البيروتية تحت وطأة بدء ولادة “النظام الجديد” في لبنان وكيف أخذت نخب “القديم” تلتحق بِـ “الجديد” وبقواه الشابة غير الملطّخة بالسياسات والتحريضات الطائفية.

يبدو لي أن أحد العوامل الكبيرة غير المعلنة التي ساهمت في صناعة أكبر تظاهرة سياسية غير طائفية منذ ما قبل الحرب عام 1975 إذا لم يكن في تاريخ لبنان كتظاهرة غير طائفية هو أنها عبّرت عن لحظة خجل الطبقة الوسطى اللبنانية من ماضيها المذهبي بصورة خاصة والطائفي بصورةٍ عامة.

هي طبعا، رغم ضخامتها، أصغر من العديد من تظاهرات الحشد الطائفي. لا أريد أن أدخل في الأرقام والتقديرات العددية وأنصح الطليعة التي قادتها بأن لا يلجأ قادتها إلى أساليب الميليشيات الطائفيات (وإعلامها التابع) التي كانت تحوّل العشرة آلاف إلى مئة ألف، والعشرين ألفا إلى ربع مليون، والخمسين ألفا إلى مليون، والـ75 ألفا إلى مليون ونصف المليون. ليست تظاهرة السبت بحاجة إلى كل ذلك فلو كانت أرقامها الحقيقية عشرين أو ثلاثين ألفا أو أربعين ألفاً فهذا يعني نتيجةً ضخمةً جدا لتظاهرة غير طائفية فعلاً ولو التحق بها طائفيون. لأن المهم هذه المرة أن تنوُّعَها الطوائفي والثقافي وتعبيرها عن وحدة وطنية لا طائفية ضد القوى الحاكمة هي جوهرها الطاغي بعكس السابق عندما كان الموقف الطائفي المحتقن في ساحتي البرج ورياض الصلح يغطّي نفسه بادعاءات وطنية وغير طائفية.

لم تكن تظاهرة فقراء، كانت تظاهرة الشرائح المتقدمة المقيمة على الأرض اللبنانية من الطبقة الوسطى المأزومة. وهذه الحقيقة لا تضير تاريخيّتَها بشيء. فلمَ لا؟ هكذا تتقدم الطبقة الوسطى وتحالفاتها مع شريحة قليلة من البورجوازية المتنورة لتلعب دور الطبقة القائدة في لحظة احتجاج ديموقراطي وسلمي بعدما هيمنت الطائفية الحاكمة على مشاعر الشرائح الأوسع من الفقراء وعلى نظرتهم لمصالحهم وعصبياتهم ووظّفتهم في مشاريع فاشيات أحكمت معادلة “النظام القوي والدولة التافهة”. هذه الطبقة الوسطى كلها حصيلة عصامية تعليمية ووظيفية، حتى لو كانت أجزاء مهمة منها تحالفت مع النظام الطائفي لتأمين ثبات وظيفي لها داخل دولة مفلسة ولكن غير متوقفة عن الدفع. هذه الفئات الوسطى يجب مراقبة ما إذا كانت “عودة وعيها” المصلحي والأمني جعلت مشاركتها في تظاهرة السبت نوعاً من التطهّر الذاتي السياسي والأخلاقي ضد شيزوفرانيا سياسية أدمنت عليها وليس ثابتا إلى أي وجهة ستُتَرجَمْ هذه الانتفاضة الذاتية خارج التظاهرة وماذا سيبقى منها.

لن أتحدث عن الوصوليين والانتهازيّين… هؤلاء من الطبيعي أن يكونوا موجودين ولكنهم شاركوا في لحظة هي فعلا ضد النظام الطائفي. كان يكفي أن نسمع ونشاهد تعبيرات ارتباك الخطاب السياسي للملتحقين بأحزاب النظام وتخبطاتهم في تلك الساعات لكي نرى الفارق عن السابق، أعني السابق الذي كنا نرى فيه أبشع أنواع الاحتقان المذهبي والطائفي مغطّاةً بخطاب ديموقراطي.

لقد تغيّرت مُلْكِيَّتا ساحتي رياض الصلح والبرج سياسياً لساعات خلال تظاهرة السبت. لم تعودا لـ8 و14 آذار وانقسامهما المذهبي. ربما ما هو مؤكّد أن وسط بيروت بلور دوره للمرة الأولى كمكان ثقافي جامع للمدينة، لا يخطّط مذهبيون لـ”إحراقه” ولا مذهبيون بالمقابل للهيمنة الوحيدة عليه. لم يندمج داخله الفقراء، كفئة اجتماعية مثلما كانت المدينة القديمة بنية تتعايش فيها كل الطبقات، ولكن الطليعة العلمانية والثقافية، وهي مهمة لحياة أي مدينة متعددة، أصبحت جزءا عضويا منه بشكل نهائي بعد تظاهرة السبت.

كانت تظاهرة يمين ويسار ووسط… وكلها أيديولوجياً هذه المرة أسماء وتحالفات حقيقية لا قِناعيَّة. كان اليمين غير الطائفي واليسار غير الطائفي، بل كان هناك اللامسيّسون الناقمون لأسباب حياتية. أقصد دائما الكتلة الرئيسية. كان هناك قدماء وجدد في السياسة. الشيوعيون الذين كانوا في مكانهم الطبيعي أو نجحوا في أن يكونوا كذلك حتى لو أن الطليعة المحركة ليست منهم، بل أغلبها لا يمكن تصنيفه على اليسار، إنما كان دورهم ودور شبابهم أكيدا وجديا. كان هناك بعض بورجوازية رأس بيروت والأشرفية وبعض المدن الكبرى وهي متعددة الألوان، وكان الفنانون والمثقفون بمن فيهم، للانتباه، جيل شبابي خلاّق علينا رصد تعبيراته من الآن فصاعدا. وكان الحضور النسائي فعالا وكثيفا كأي تظاهر في بلد أوروبي ديموقراطي أو في مصر ميدان التحرير 2011 أو تركيا تظاهرات ساحة تقسيم 2013 أو إيران الثورة الخضراء 2009.

تبقى لي ملاحظة مشهدية. صدف أن استصرحتْ مندوبةُ إحدى المحطات التلفزيونية شخصين يقفان متجاورَيْن في الحشد فسألت الأول وهو من الجنوب الجنوبي، صور، ثم سألت الثاني وهو من من الشمال الشمالي، عكار، فبدا الأمر وكأنهما من “قارتين” مختلفتين والأرجح أنهما كشابين فتيّين يقفان إلى جانب بعضهما البعض للمرة الأولى. بالمناسبة هل أفقدَ ارتباك الطبقة السياسية ذكاءَها فأصدرت هذا القرار الغبي الذي ربط في جلسة واحدة بين اختيار عكار كمطمر للنفايات وبين تمييز عكار بمائة مليون دولار لـ”مشاريع التنمية”؟

أخيراً هذا الموضوع المفلس تعبوياً المسمّى دور السفارات. ما المانع إذا كانت السفارات الغربية تقف مؤيدةً بل مشجِّعةً لاعتراض من هذا النوع؟ الغرب قوة تحديث في المنطقة حتى لو كان الأمر سينتهي بفتح باب الهجرة للناشطين والكفاءات اللبنانيين الذين ظهروا في الحياة العامة. فَلْ “تتآمر” الملحقات الثقافية في السفارات الغربية على نظام يتباهي بالعلاقة مع الخارج كـ “بلد منشأ”. وإذا كان للسفارات دور في احتضان ظاهرة التظاهرة فكل الشكر لها. الآن نفهم أكثر رسالة التهكّم غير المألوفة التي وجّهها السفير البريطاني قبل أسابيع إلى السياسيين والحياة العامة اللبنانية. ليس أكثر عهرا من الطائفيات في المحاضرة بالوطنية. ما يعنينا أن لا تتآمر حكومات السفارات على خرائط دولنا ومصيرها وليس على طبقة حاكمة طائفية وفاسدة بأجزاء واسعة منها.

… وكان هناك يوم السبت السراب واللايقين الأكيد وعدم القدرة على التغيير السياسي. إنه فعلاً أجمل من أن يكون كل ذلك دائما.

ما رأيناه حقيقي وليس حقيقيا معاً. وقريبا ستعود الوقائع الشعبية والأمنية والتعصبية للنظام الطائفي الذي يمر بلحظة ارتباك… سيلجأ بعدها إلى أسلحة فتّاكة. على أي حال لن تعود اللغة السياسية بالسهولة نفسها بعد الآن. سهولة الاستحكام. لقد نظّفَتْها النفايات. أما النظام السياسي، رغم الدرس الذي ناله فباقٍ طويلاً.