IMLebanon

الإبادة الأرمنية… قَتلونا ولم يعلموا أننا بذور

مئة وعامان مرت على نضال الشعب الأرمني. لا عزيمتهم بردت، ولا ذاكرتهم خانتهم، ولا قواهم خارت. نُكّلوا، عُذّبوا، خُنقوا، أُعدموا، ذُبحوا، دُفنوا أحياء، في النار رُميوا، أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم… حاولوا إبادتهم ولم يعلموا أنّهم بذور من تحت التراب يتنفّسون الحياة، من خيوط الليل يُحيكون الاحلام، من بين براثن السفاح يجترعون البطولات. هم الذين تألموا منذ العام 1915 فتحوّلت جراحهم قضية عالمية يتألم معها العالم ومن نضالهم يستقي العبر.

تحلُّ الذكرى السنوية للإبادة الارمنية في 24 نيسان، أما في حسابات الشعب الأرمني فهي ذكرى يومية، تغفو وتصحو معهم، تأكل من صحنهم، تنمو مع تسلّل الشيب إلى شعرهم.

«كيف لهذه القضية أن تُفارقنا وهي تسكن جينات دمنا؟»، تسأل الطالبة تزاريغ التي التقتها «الجمهورية» في جامعة «هايكازيان» وهي تتخصَّص في الدراسات الارمنية.

صحيح أنّ تلك الشابة لم تعايش مأساة الإبادة الارمنية لكنّ ما تختبره لا يقل وجعاً لِما عاناه أجدادها، خصوصاً بعدما أُجبرت على ترك جامعتها تشرين في اللاذقية ومواصلة تعليمها الجامعي في لبنان. فتَروي بغصّة: «كنت سأتخرج بعد عام وفصل إلّا أنّ قريتي كسب السورية تعرضت لهجوم بعدما سبق لأهلي أن لجأوا إليها بحثاً عن الامان، عدنا وتجرّعنا مرارة كأس الترحال نفسه، أتينا إلى لبنان بملابسنا وأوراقنا، لأعود وألتحق بالجامعة، بدلاً من أن أكون قد تخرّجت».

أمّا عن تخصّصها، فتؤكّد أنها لم تختره صدفة، بل هو تجسيد لروح جذورها الارمنية النضالية، فتقول: «إخترت التخصّص في الادب الارمني لأنني أرغب في تعليم هذه اللغة والحضارة إلى الأجيال المقبلة».

أما نيشته بدروميان، الذي اختار التخصّص في الموارد البشرية، فلا يزال يتذكر ما رَوته له جدته، فيقول: «أتألم لمعاناة جدتي التي خسِرت والدتها وهي تسير في الصحراء نتيجة العطش والجوع. معظمهم تربّوا أيتاماً، حُرموا حنان الأم والأب، لم يكن من السهل لاحقاً لملمة الجراح وتكوين أسرة حفاظاً على النسل والاستمرارية».

ويضيف: «مقاومة الموت في دمنا، نحن معجونون على الحياة، في ذكرى الابادة الارمنية نسترجع قوانا، ونأخذ نفساً عميقاً لمواصلة مسيرتنا ليعترف العالم برمّته بما أصاب أهلنا الارمن من إجرام حاقد».

قيمة مضافة

«من صمَّم مبنى مجلس النواب اللبناني أرمني، وهو مارديروس ألتونيا، عام 1933، من حمل بذور البندورة إلى الاردن هم الأرمن، من اشتهر بتصليح السيارات في سوريا هم الارمن…». بنبرة تنضح افتخاراً يستذكر مدير مركز الابحاث للشتات الارمني في «هايكازيان» الدكتور أنترانيغ داكسيان روح الإبداع التي تميّز بها الارمن أينما حلوا، والعلامة الفارقة التي تمكنوا من تسجيلها رغم الظروف القاسية التي عصفت بهم عبر التاريخ.

يولي داكسيان أهمية كبيرة للأبحاث حول الشتات الارمني رافضاً الإستسلام لأحداث الابادة الارمنية، فيقول لـ«الجمهورية»: تأسّس المركز في أواخر العام 2011، نقوم بأبحاث عن الطوائف الارمنية في الشرق الاوسط خصوصاً.

عام 2012 ركزنا على العلاقات بين الشتات وأرمينيا الأم، عام 2014 شدّدنا على الارمن في لبنان، 2015 الارمن في سوريا، 2016 الارمن في الاردن، والآن نُعدّ لمؤتمر الارمن في العراق».

ما أهمية تلك المؤتمرات والمحطات؟ يجيب داكسيان: «نركز على الارمن في المنطقة بعد المجازر لأننا أبناء القيامة، لا يكفي القول إننا عشنا وتألّمنا، إنّما عشنا وعيّشنا، وأثّرنا في أيّ بقعة وجدنا فيها، وطورنا المنطقة، فالشعب الارمني لا شك في أنه أخذ ولكن من أكثر الشعوب التي أعطت الشرق الاوسط».

لماذا 24 نيسان؟

رغم أنّ إبادة الارمن بدأت قبل 24 نيسان 1915، لكنّ هذا الموعد يُشكل محطة أساسية موجعة، فيقول داكسيان: «في ذاك اليوم المشؤوم، ألقي القبض على نحو 250 من صفوة أبناء الارمن، ممَّن كانوا أصحاب نفوذ ومراكز، منهم رجال دين، أساتذة، مفكرون، شعراء مؤلفون، صحافيّون، أطباء، ذبحوا من دون أيّ محاكمة. وتواصلت المجازر البشرية الجماعية لتخلّف أكثر من مليون ونصف قتيل من الشعب الارمني».

ويضيف: «ما نقوم به من تقدّم ما هو إلّا ردة فعل ورسالة صارخة لكلّ من يُحاول النيل منا، لن نُقتل، سنتطوّر، ونطوّر المنطقة، ثقافتنا قوية لقوة جذورنا، ممّا يساعدنا على مواصلة الطريق، والنهوض لمواجهة الحياة والانتشار حول العالم ومد اليد إلى الآخر».

لهذه الأسباب «أقوياء»

يشكّل التخصّص في قسم الدراسات الأرمنية في جامعة «هايكازيان» نقطة جذب للطلاب عموماً وللذين هم من جذور أرمنية تحديداً. في هذا السياق، تعتبر رئيسة قسم الدراسات الارمنية في الجامعة الدكتورة نانور كره كوزيان، «أنّ هذا التخصّص يمكن الطلاب من التبحّر في الحضارة الأرمنية وتاريخها، ويمكنهم من المحافظة على استمرارية قضيتهم من جهة والانخراط في المجتمعات المضيفة من جهة أخرى».

وتضيف: «التخصّص هو من الوسائل السلمية الأساسية في الدفاع عن الثقافة الارمنية والمحافظة عليها، لا شك في أنّ إتقان اللغة الارمنية مسألة ضرورية لإبقاء القضية حية، ولكن مع الوقت وحدها لا تكفي. من هنا أهمية التعلم، إحياء المناسبات، وغيرها من الوسائل الثقافية التي سيحفظها التاريخ».

وتعتبر كره كوزيان «أنّ وسائل المحافظة على الهوية الارمنية لا يمكن أن تبقى نفسها على مرّ العصور، لا بد أن تواكب العصر، تتبدّل، تتطوّر وتُحاكي الشباب ليشعروا بمسؤوليتهم في المحافظة على جذورهم ومستقبلهم خصوصاً أنّهم لم يختبروا تداعيات الابادة الارمنية، بل تعرفوا إليها عبر الابحاث والدراسات… وأخبار يتوارثونها».

المطران بانوسيان

يعتبر مطران الارمن الأرثوذكس في لبنان شاهيه بانوسيان أنّ للشعب الارمني مناسبات متعدّدة في تاريخه، ولكنّ «الابادة الارمنية هي المحطة الاساسية التي شكّلت حياة جديدة لنا وانطلاقة بعد ضياع وسقوط نصف الشعب الارمني شهداء».

ويوضح لـ«الجمهورية»: «ما يميّز الارمن عن غيرهم أنهم يواصلون تطوير أنفسهم، أينما حلّوا برعوا، سواء في المصالح والمهن أو في الميادين الثقافية الفكرية، وأساس نجاحنا هو عمق معرفتنا لماضينا وتمسّكنا في العيش المشترك، فما يجمعنا اكثر ممّا يفرّقنا».

ويلفت بانوسيان إلى أنّ ما تعرّض له الشعب الارمني قد يصيب أي شعب وإن بوسائل مختلفة، فيقول: «الإبادة الارمنية قضية عالمية قد يتعرّض لها أي إنسان، لذا مسؤوليتنا كبيرة في رفع الصوت والتنديد بما حصل والإعتراف به علناً، من دون التخفيف من وطأة ما أصاب الارمن في الصميم»، مشيراً إلى «أننا نعيش أشكالاً مختلفة من الابادة، لا سيما ما تعرّض له الاقباط في مصر والايزيديين في العراق».

لا خوف من النسيان

أما الذي يُميّز إحياء ذكرى الإبادة الارمنية من عام إلى آخر، فيجيب بانوسيان: «من خلال إحياء هذه المناسبة نذكر العالم أنّ الرب خلقنا لنتشارك الحياة معاً بسلام، لذا لا يحقّ لأحد تهميش الآخرين، كما أنّ هذه الذكرى تبقينا صفاً واحداً متعاضدين من أجل مستقبل أفضل»، مؤكّداً أنه لا يخشى أن يخفت وهج هذه الذكرى مع الاجيال المقبلة، «طالما نقوم بدورنا وننشئ أولادنا على معرفة ماضيهم وتاريخهم بحذافيره، وهم بدورهم سينشِئون أولادهم بالأسلوب نفسه وهذا واجبهم، فلا حاجة للخوف من أن تُمحى الذكرى».

أما عن الرسالة التي تحملها الكنيسة الارمنية بعد هذه السنوات، فيوضح بانوسيان أنها «تؤدي دور الام الحاضنة لأبنائها والداعية لنبذ الكراهية وروح الانتقام وتقبّل الآخر، وتُذكر أيضاً بوجود قضية محقّة لا يمكن السكوت عنها أو الاستخفاف بها».

ومن بانوسيان رسالة إلى الأرمن: «نتمنى مواصلة النضال لنبلغ حقوقنا كافة، وللشعب اللبناني نتمنى العيش بسلام».