IMLebanon

أما الجيشَ فلا تَقهَر

إلى حزبِ الله التهنئةُ بانتصاراتِه في مِنطقة عِرسال، والتعزيةُ بشهدائِه، والدعاءُ بالشفاءِ لمصابِيه. وأيُّ موقِفٍ آخرَ تجاهَه مُنافٍ للشهامَة. أما للحكومةِ اللبنانيّةِ فالتوبيخُ على منعِ الجيشِ من قيادةِ المعركة، والتأنيبُ على التنازلِ عن دورِها بحمايةِ حدودِها وشعبِها، وتجييرِ قرارِ الحربِ والسلمِ إلى حزبِ الله والجيشِ السوريّ. وأيُّ موقفٍ آخَرَ تجاهَها منافٍ للبديهيّات.

إذا كان الجيشُ اللبناني عاجزًا عن القيامِ بعمليّةِ عِرسال – وهذا غيرُ صحيح – فلماذا لم تَطلبْ الدولةُ اللبنانيّةُ دعمَ “التحالفِ الدوليِّ لمكافحةِ الإرهاب”، ولبنانُ عضوٌ فيه منذ تأسيسِه في أيلول 2014؟ لا بل أُنشِئَ هذا التحالفُ لمحاربةِ داعش تحديداً، أي لحالاتٍ مطابِقةٍ مئةً في المئةِ لوضعِ مِنطقةِ عرسال.

لقد حَضر لبنانُ الاجتماعَ التأسيسيَّ للتحالفِ في جَدّة (11 أيلول) على مستوى وزراءِ الخارجيّةِ، والاجتماعَ التنسيقيَّ على مستوى قادةِ الجيوشِ في قاعدةِ “أندروز” الجويّةِ الأميركـيّـة (14 تشرين الأول 2014) وسائرَ الاجتماعاتِ اللاحقةِ. حين نَنضمُّ إلى تحالفٍ، نَستفيدُ منه عندَ الحشرةِ أو ننسحبُ منه. عُضويّةُ الشرفِ ذُلٌّ أحياناً.

سمِعتُ أنَّ التحالفَ ما كان ليقبَلَ بالمشاركةِ في معركةِ عرسال. هذا زعمٌ مجازيٌّ لأنّ دولةَ لبنان لم تسألْه أساسًا ليقبَلَ المشاركةَ أو يرفضَها، لا بل أنَّ المعطياتِ والمؤشراتِ مخالِفةٌ للزعم. ألمْ يَــزُر قائدُ القيادةِ المركزيّةِ الوسطى الجنرال “جوزِف فوتيل” مِنطقةَ عِرسال في 07 حزيران الماضي؟. هل ذَهب إلى هناك ليمُهّدَ الطريقَ لحزب الله؟!!!

لو فاوضَت الحكومةُ اللبنانيّةُ قيادةَ التحالفِ على عمليّةِ عِرسال لكان لبنانُ حقَّق الفوائدَ التالية:

1 – نزعُ أيِّ طابَعٍ مذهبيٍّ (سنّي/شيعيّ) عن المعركةِ؛ فالمرجعيّاتُ السُنّيةُ في لبنانَ والخارج أخَّرت الحسمَ ثلاثَ سنواتٍ لأنها كانت تَخشى أن يُهجَّرَ أهلُ عرسال السُنّـةُ تحت ستارِ محاربةِ التكفيريّين. والغريبُ، أنَّ هذه المرجعياتِ التي تحفَّظت سابقاً على عمليّةٍ بقيادةِ الجيشِ اللبنانيّ، الحريصِ على عِرسال، أجازت اليومَ لحزبِ الله القيامَ بها بالتنسيقِ مع جيشِ النظام السوري، فيما ترفضُ الحوارَ معه لإعادةِ النازحين السوريّين.

2 – تأمينُ تغطيةٍ جويّةٍ دوليّةٍ محايدةٍ للجيشِ اللبنانيّ، وضمانُ مسؤوليّةِ دولِ التحالُف عن إعادةِ بناءِ المِنطقة. ففي وثيقةِ التحالفِ بندٌ يَنصُّ على التالي: “يَـلتزمُ التحالفُ إعادةَ بناءِ المجتمعاتِ التي روَّعها تنظيمُ داعش بأعمالِه الوحشيّة”.

3 – توفيرُ تغطيةٍ دوليّةٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ لسيادةِ لبنان على حدودِه مع سوريا، في حين لم تَتمكّنْ دولةُ لبنان من ترسيمِ تلك الحدودِ رغمَ صدورِ قرارٍ بالإجماعِ بذلك في مؤتمرِ الحوارِ سنةَ 2006.

4 – خلقُ فرصةٍ جديدةٍ لتوسيعِ تطبيقِ القرارِ 1701 ليشُملَ حدودَ لبنان الشرقيّة – الشماليّة، فيضمِنُ سلامتَها نهائــيًّا في مرحلةٍ تتساقطُ الحدودُ في دولِ الجوار. وبذلك، يبقى الكيانُ اللبنانيُّ بمنأى عن تداعياتِ خريطةِ سوريا الجديدةِ وتقسيماتِها.

لكنَّ حساباتِ الدولةِ اللبنانيّة، الخاضعةِ للمحورِ السوريِّ/الإيرانيّ، غيرُ حساباتِ المصلحةِ اللبنانيّة. فعِوضَ أن تُقدِّمَ الدولةُ معركةَ عِرسال للجيشِ اللبنانيِّ شَهادةً له أمامَ الشعبِ والعالم في محاربةِ الإرهاب، قدَّمتْها إلى المحورِ السوريِّ ـــ الإيرانيّ فيما تَستعدُّ واشنطن لاتخاذِ عقوباتٍ جديدةٍ بحقِّ حزبِ الله. مؤسفٌ أنَّ ما يَربَحُه الجيشُ اللبنانيُّ عسكريًّــا تُخسِّره إيّــاه الدولةُ سياسيًّا.

قبل قرارِ عرسال، كان حريًّا بالدولةِ اللبنانيّةِ أنْ تستوعبَ التحوّلاتِ في المِنطقةِ وتدركَ واقِعَ التفاهمِ الأميركيِّ ـــ الروسيِّ الجديد وأبعادَ تحييدِ جنوبِ غرب سوريا على الحدودِ مع إسرائيل والأردن.

فسحبُ ورقةِ مكافحةِ داعش والإرهابِ من إيران وحلفائِها في الشرقِ الأوسط كان أحدَ الحوافزِ الأساسيّةِ التي دفعَت المجتمعَ الدوليَّ سنةَ 2014 إلى إنشاءِ التحالفِ العربي ــــ الدولي لمحاربةِ داعش. وإذ بقرارِ الدولةِ اللبنانيّةِ في عِرسال يُـعيد الحصريّـةَ للمحورِ السوريِّ ــــ الإيرانيّ في محاربةِ داعش والنُصرة.

هذا يعني عملياً الأمور التالية:

1 – إبقاءُ الحدودِ اللبنانيّةِ – السوريّـة خارجَ السيادةِ الوطنيّةِ وخارجَ مراقبةِ الجيشِ حَصراً، ما يَجعل هذه الحدودَ مفتوحةً على كلِّ الاحتمالات. لو قام الجيشُ اللبنانيُّ بالمُهمّةِ لبقيَت معركةُ عِرسال قضيّـةً تتعلّق بأمنِ لبنان الداخليّ، أما وقد أنجَزها حزبُ الله ببسالةٍ فأصبحَت مرتبطةً بالحدودِ اللبنانيّةِ السوريّة، بل بمعركةِ المَمرّاتِ الحدوديّةِ المُمتدّةِ من إيران إلى العراق إلى سوريا وصولاً إلى البقاع فجنوبِ لبنان.

2 – انطلاقًا من مبدأِ: “الأرضُ لِمَن يُحرِّرها”، ستكون مِنطقةُ عِرسال موقِعاً أساسيًا لحزبِ الله ومَحطَّ نظرِ الجيشِ السوريّ، ما يُحوّلها امتداداً ديمغرافــيًّا وجغرافــيًّا لمحيطِها اللبنانيِّ ولجوارِها السوريّ.

3 – تَركت معركةُ عِرسال لدى الرأيِ العامِّ اللبنانيّ انطباعَ أَنَّ الجيشَ هناك هو قوةٌ رديفةٌ لحزبِ الله في حين أنه القوّةُ الأصيلة، وبذلك أنعشَت الحكومةُ معادلةَ “الجيشِ والشعبِ والمقاومة”، بل معادلةَ: “مقاومةٌ وبَسْ”. أيّتها الدولةُ لا تَقهري جيشَك.

4 – ما يَحصُل في عِرسال، مُضافاً إلى دورِ حزبِ الله في سوريا، سيؤدّي إلى تشريعِ سلاحِ حزبِ الله كجسمٍ عسكريٍّ دائمٍ في التركيبةِ الدفاعيّةِ اللبنانيّة، على غرارِ القوّاتِ الخاصّةِ في سوريا، وجيشِ الباديةِ في الأردن، والحرسِ الوطنيّ في السعوديّة، والحرسِ الثوريِّ في إيران، ويبقى لنا الأنصارُ في السلك الديبلوماسي.

5 – سيستخدِم حزبُ الله هذا الإنجازَ العسكريَّ / الأمنيَّ العظيم في عِرسال لتعزيزِ دورِه كقوّةٍ ضامنةٍ للحدودِ اللبنانيّةِ الشرقـيّةِ كما أثبتَ على الحدودِ اللبنانـيّـةِ الجنوبيّةِ تجاه إسرائيل. فهذه الحدودُ هي أهدأُ حدودٍ في كلِّ الشرقِ الأوسَط حتى الآن.

بعدَ اليوم، أيستطيعُ سعد الحريري أن يقولَ: “لا للسلاح”؟ وأتستطيعُ القِوى التي تظُّن نفسهَا “سياديّةً” أن تقولَ: “لا” لمعادلةِ “الجيشِ والشعبِ والمقاومة” بعدَ موافقتِها وسكوتِها على توكيلِ حزبِ الله بالعمليّة؟ أكثرُ من ذلك: كنا نطالبُ بعودةِ النازحين السوريّين إلى سوريا، فإذا بالجيشِ السوريّ يعود إلى لبنان من خلال مشاركتِه المباشِرة جويًّـا بمعركةِ عرسال. إنّها سُخرية القدر.