IMLebanon

مُشكلة العجز في الموازنة أخطر من أن تُهمل

لا يُخفى على أحد أن مُشكلة تفاقم الدين العام اللبناني أصبحت تُشكّل خطرا حقيقيا على كيان الدولة اللبنانية المالي والإجتماعي. هذا الدين الذي هو وليد العجز المُزمن أدخل المالية العامة في حلقة مُفرغة سيصعب الخروج منها دون إصلاحات جذرية.

العلاقة بين العجز في الموازنة وإرتفاع الدين العام ليس بموضوع جديد في النظرية الإقتصادية. العديد من الأبحاث حاولت فهم طبيعة هذه العلاقة وتحديد آلية تأثير العجز على ارتفاع الدين العام.

وتوصلت هذه الأبحاث إلى خلاصة أن تحوّل العجز إلى دين عام يأخذ أشكالًا حسابية عديدة أخطرها العلاقة الخطّية، أي عندما يتحوّل العجز بالكامل إلى دين عام.

بهدف وضع سياسات توزيع للموارد ملائمة للتوزيع العادل للثروات في المُجتمع وجعل النمو الاقتصادي أكثر ثباتًا، تقوم الحكومة بخلق عجز مؤقت تُموله من خلال الضرائب، الإستدانة في الأسواق، أو من خلال بيع أصول عامة للقطاع الخاص (الخصخصة).

الأساس من مداخيل الدولة تأتي من خلال الضرائب التي عادة لا تكفي لذا تعمد الحكومة إلى الإستدانة في الأسواق من خلال إصدار سندات خزينة. أما خيار الخصخصة فيبقى خيارًا قسريًا تأخذه الدولة في ظل ظروف إستدانة عالية جدًا.

الضرائب تتعلق بالوضع الاقتصادي بحكم أنها ضرائب على النشاط الاقتصادي وبالتالي في الأوقات التي يُعاني فيها الاقتصاد من تراجع، تقلّ مداخيل الدولة من الضرائب وتعمد الدولة إلى سدّ النقص عبر الإستدانة. وهنا تبرز مُشكلة من نوع أخر: الأسواق تُرحب عادة بالإصدارات التي تقوم بها الدولة، ويؤدي ذلك الى شراء كامل أو جزئي للإصدار بما يفرض في هذه الحالة تدخّل المصرف المركزي.

من التداعيات السيئة للإستدانة، طريقة تسديد الدين العام التي تفرض إنضباطا في الإنفاق الجاري وتحفيزا للإنفاق الإستثماري. وبحسب النظرية الكلاسيكية، فإن تمويل الإنفاق الإستثماري أي الإنفاق بهدف رفع القدرة الإنتاجية لا يبرّر الإستدانة.

كما أن الإنفاق الجاري بطبيعته الفورية يخلق مفاعيل إيجابية فورية، إلا أنه مُخالف للإدارة الفعّالة والعادلة للقطاع العام (في حال تمّ تمويله من خلال الإستدانة) لأنه يؤدي الى تأجيل التمويل إلى المُستقبل.

هذا الواقع تصفه النظرية الإقتصادية بواقع «لا أخلاقي» لأن الجيل الحالي يعيش على حساب الأجيال المُستقبلية وبالتالي فإن دين اليوم هو ضرائب الغد.

من هنا تأتي أهمية الموازنة العامة التي تسمح برسم طريق واضح يؤمّن العدالة الاجتماعية بين الأجيال وبين أفراد الجيل الواحد من خلال توزيع عادل للثروة كلٌ بحسب مُشاركته في النشاط الاقتصادي. هذه الموازنة تتألف من إيرادات وإنفاق ويتمّ تحديد هذا الأخير نسبة إلى الإيرادات المُتوقعة بطريقة لا تخلق عجزا.

ويُشكّل الإنفاق العام الوسيلة الأساسية التي تتدخل من خلالها الدولة في الحياة الإقتصادية، وله طبيعة شبه أكيدة في حين أن الإيرادات لها طابع غير مؤكد وبالتالي، في حال كانت أقل من الإنفاق تخلق عجزًا.

العجز في الموازنة له تداعيات إقتصادية. بحسب النظرية الإقتصادية، يؤسس هذا العجز لتحفيز إقتصادي بحسب نظرية كينز. إلا أن بعض الإقتصاديين يرون في هذا العجز إشارة سيئة للإدارة العامة للمال العام. أما النظرية الليبيرالية فترى في العجز وسيلة أكيدة لرفع الدين العام.

إحدى وسائل تمويل العجز تكمن في التضخّم من خلال طبع العملة وهذا الأمر خطير جدا بحكم أن أي مُحاولة مُستقبلية من قبل الأجيال لخفض التضخم ستخلق حكما إرتفاعا في الدين العام وبالتالي الضرائب.

يرتفع الدين العام لأن الدولة تفتقّر بشكل هيكلي ومُزمن (حالة لبنان). فتراجع النشاط الاقتصادي والهدر والفساد، تبقى في طليعة الأسباب التي تخلق عجزًا في الموازنات وبالتالي الدين العام.

هذا الإرتفاع يفرض رفعا في أسعار الفائدة عادة يستفيد منها المُقرض للدولة (أي المصارف في حالة لبنان). هناك حلول لرفع الإيرادات وخفض الإنفاق، لكنها في معظمها صعبة التطبيق إجتماعيًا وعلى رأسها لجم الإنفاق العام ومحاربة الفساد كما وتخفيف تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي (هذا ما تتبعه الإقتصادات الحرّة).

في كل الأحوال عدم القيام بإجراءات للجم العجز وبالتالي خدمة الدين العام تؤدّي إلى كارثة كما حصل في الأرجنتين، واليونان وإيرلندا وغيرها. هذا الأمر له تداعيات إجتماعية كارثية إذ يكفي النظر إلى ما يحصل في اليونان لتكوين فكرة عمّا قد يحدث في حال إنفجرت خدمة الدين العام!

الصعوبة الأكبر في كل هذه العملية أن ارتفاع العجز يرفع الدين العام وبالتالي، ترتفع خدمة الدين العام التي تزيد من العجز، وهكذا دوليك لتدخل المالية العامّة في حلقة مُفرغة عادة لا يُمكن كسرها إلا من خلال تقشف إجتماعي شبه قاتل للمواطن.

يبقى القول أن المسؤولية الأساسية في ارتفاع الدين العام تقع على الطبقة السياسية التي، ولأهداف إنتخابية، تأتي بحلول إجتماعية على حساب الخزينة العامة (حالة التوظيف العشوائي في القطاع العام).

على المدى القصير كما على المدى البعيد، هناك ثقل كبير يفرضه الدين العام على النشاط الإقتصادي من ناحية أنه يدفع إلى المنافسة بين القطاع الخاص والقطاع العام على أموال المصارف التي من المفروض أن تذهب إلى تمويل الاقتصاد. إلا أنه في حال الدولة اللبنانية كما حال معظم الدول التي تعاني من عجز، تذهب هذه الأموال لتمويل الإنفاق الجاري الذي بلغ أكثر من ٩٥٪ في الموازنة في لبنان.

هذا الأمر غير مقبول ويفرض على الطبقة السياسية الإسراع في إيجاد حل لمُشكلة العجز من خلال وضع موازنة تقشفية تحتوي على إنفاق إستثماري وتأخذ بالإعتبار الإستحقاقات المالية التي تستحق في العام ٢٠١٧ والبالغة ٧،٩ مليار دولار أميركي.

إذا كان الشعب اللبناني إختار الطبقة السياسية التي تُدير الشأن العام، فإن الأجيال المُستقبلية ليست بمسؤولة عن هذا الخيار وبالتالي لا يجب تحميلها تداعيات نمط معيشة اللبناني والسياسات التي تُدير الشأن العام.