IMLebanon

الفرق بين الزعيم ورجل الدولة  

«مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمرّ

أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ

والكلمة دين من غير إيدين بسّ الوفا علحرّ»

(أحمد فؤاد نجم)

أكثر ما يشبه الزعيم الشعبوي الناجح في بلادنا هو المطرب المبدع الذي يسحر السامعين بصوته وحركات جسمه وفتلات يديه وكلمات أغنيته وتفننه بالعرب والمواويل وسرعة بديهته في التقاط لحظة التأثير القصوى على أحاسيس الناس ليكسب المزيد من التشجيع والإعجاب ليدخل هو وسامعيه في النشوة، فيعود الجميع بعد ختام السهرة وهم يعيشون تلك اللحظات، ولكن كما يقول نزار قباني في قصيدة كلمات «أعود لطاولتي لا شيء معي إلا كلمات». وهكذا فإن الزعيم الشعبوي هو من يتقن اقتناص اللحظة التي تدخله حالة النشوة مع جمهوره لدرجة قد تصل إلى حد الإدمان، ولكن بالنهاية فلا شيء يتغير في حياة الناس سوى تلك اللحظات الخاطفة من الأحاسيس الجامحة.

أما رجل الدولة فهو أكثر ما يشبه الجراح الخبير، فهو يشخص المرض ويبحث عن الحلول وقد يدخل المريض بعدها في جراحة مؤلمة وقد تكون أحيانا خطرة، لكنه بالنهاية يسعى لعلاج المرض على الرغم من أن بعض العلاج قد لا يفرح المريض.

بصراحة، في لبنان ما يفيض عن حاجته من زعماء في الماضي وفي الحاضر، وفيه ما ندر من رجال دولة قبلوا بتحمل ظلم الرأي العام لهم عندما تدفعهم الظروف الصعبة إلى اتخاذ خيارات غير شعبية على أساس أنها الطريق الأكثر احتمالا للنجاح على المدى الطويل في انتاج الحلول. ينعته الكثيرون بصفات لا حصر لها ويتهمه كثيرون بشتى أنواع المظالم، وقد يشتمه البعض وينفضّ عنه بعض مريديه بسبب قراراته، فيما يقتنص الزعماء الشعبويون المنافسون له الفرصة لاكتساب المزيد من التأييد لهم مع علمهم بأن خيارات رجل الدولة هي الأصح، وبأنهم لم يكونوا ليأخذوا خيارات أخرى لو كانوا في مكانه. أما المصيبة النكداء فتكمن في أنه حتى من نصحه باتخاذ تلك القرارات أو شاركوه بوضعها أو ساهموا باتخاذها يختفون فجأه عن الساحة ويغيبون عن السمع وقت الحاجة ليتركوه وحده ليتحمل وزر القرارات الصعبة المضنية!

أنا أحسد سعد الحريري على شجاعته وعلى قدرته على تحمل الحمل الهائل الملقى على كتفيه. ليست القضية محصورة بنزوله إلى الشارع رغم معرفته بالخطر الأمني والمعنوي الذي عرّض نفسه له بتلك الخطوة النادرة من رجل دولة في لبنان في مواجهة حشود غاضبة ومتوترة، وبعضها حاقد أو مدسوس أصلاً. الشجاعة كانت منذ اليوم الأول لتحمله عبء وراثة رفيق الحريري بكل ثقلة وتداعياته تحت وطأة التهديد الدائم من قبل من لا يتورعون عن اتخاذ قرارات الإغتيال في لحظة مهما كانت تداعياته، ولعلمه بأن من قتل والده وقتل آخرين لن يتردد في استهدافه عندما تأتي اللحظة المناسبة. والشجاعة كانت في استمراره بالمحاولة رغم الإحباطات والفشل والنكسات لعلمه أن التخلي عن المسؤولية هو خيانة للناس الذين وضعوا آمالهم به، وخيانة لمن ضحوا بحياتهم على الدرب، وخيانة لذكرى الوالد الذي أفنى عمره ولم يتهيب المسؤولية. والشجاعة هي في تحمله مسؤولية القرارات غير الشعبية من جهة محازبيه في سبيل إنقاذ الجمهورية من الفراغ في رئاستها يوم كان بامكانه تعطيل الحلول حتى النهاية. والشجاعة كانت باهماله مصالحه الشخصية إلى درجة غير مسبوقة في وقت كان بإمكانه إهمال مصالح الناس وزيادة ثروته بدل التخلي عنها. والشجاعة اليوم هي بتوليه قيادة مركب منخور قعره ولا أحد يريد أن يضع إصبعه لإقفال ثقب واحد حتى ولو كان بمتناول يده ومع المعرفة بأن الغرق أصبح مرجحا.

لقد كرر الكثيرون من محازبي سعد الحريري لسنوات على مسمعه بأن يتوقف عن تفضيل المصلحة الوطنية ويلتفت إلى زعامته ويحرض طائفته ويلجأ إلى الأساليب الملتوية التي يستخدمها المنافسون، ولكنه كان في كل مرة يتعرض فيها للضغط من قبل المحبين له بأن يلجأ إلى الشعبوية ليكسب هتافات الناس بحياته، يتذكر بأنه إبن رفيق الحريري رجل الدولة.

(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»