IMLebanon

ساعة الحقيقة: حول الضرائب والموازنة -2

ماركس ضد سبنسر | 

«إن استدانة القطاع العام تصب في مصلحة هؤلاء الذين يملكون الإمكانيات لإقراض الدولة»

توماس بيكيتي

للأسبوع الثاني، تستمر هجومات اليمين الاقتصادي على الموازنة ومتفرعاتها، وبلغت في أكثر الأحيان طروحات من نسج الخيال أو محاولات يائسة في اللحظة الأخيرة لعرقلة الأمور، آخرها وضع القوات اللبنانية شرط خصخصة الكهرباء وإلا أنها ستضع فيتو على الموازنة.

بشكل عام، إذا قام أحدهم بمراجعة أرشيف الإعلام في الأسبوعين الماضيين فإنه سيتعجب كيف أن هذه الطروحات كانت ستدر على الخزينة اللبنانية عدة مليارات من الدولارات سنوياً، كافية ليس فقط لتمويل السلسلة، بل تكفي لسد العجز وإطفاء الدين العام تدريجياً وإنشاء التغطية الصحية الشاملة وضمان الشيخوخة إلخ… وليعيش لبنان بعدها “بسعادة إلى الأبد”!

بعيداً عن هذه “القصص العجائبية” (fairy tales) لا بد من دحض بعض الأساطير – الأكاذيب ولا بد من ذكر بعض الأمور:

  1. يبدو أن أسطورة “ما يعطى باليمين يأخذ بالشمال” لا تنفك تظهر مجدداً لأنه من السهل تصديقها من الناس. وهي كانت استعملت سابقاً في معركة تصحيح الأجور في عام 2011 لإيهام الناس أن أي زيادة على الأجور ستقابلها زيادة مساوية لها في الأسعار، وبالتالي تبقى الأجور الفعلية هي هي. كنت في ذلك الوقت قد دحضت هذه المقولة نظرياً وتاريخياً (الأخبار….) وبرهنت لاحقاً مؤشرات الأسعار في 2012 و2013 عدم صحتها. في النسخة الأخيرة من هذه الأسطورة لمحاولة تأليب الناس ما قاله وزير الاقتصاد اللبناني عند نقاشه السلسلة “ليفهم الناس ما هي السلسلة” بإعطائه مثلاً عن موظف معاشه مليون ليرة يصبح بعد السلسلة مليون و200 ألف ليرة وبسبب الضرائب كان يدفع ثمن فنجان القهوة ألف ليرة والآن يدفع ثمنه 1200 ليرة وبالتالي تبقى القوة الشرائية للأجور هي نفسها. هذا الاستنتاج هو بعيد جداً عن الحقيقة، فمن المؤكد أن الضرائب الموضوعة في الموازنة وحتى زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 11% لن تزيد أسعار السلع إلا القليل القليل وبالتأكيد أقل بكثير من زيادة أجور الموظفين التابعين للسلسلة. ومن أن فنجان القهوة هذا لن يزيد سعره أكثر من 10 إلى 15 ليرة.

هناك «دولتان» في لبنان

واحدة كبيرة والأخرى صغيرة أنتجهما تحالف الرأسمال والقوى الطائفية بعد اتفاق الطائف

ثانياً، عطفاً على ذلك فإن إشاعة أن زيادة الضرائب هي لتمويل السلسلة هو أمر غير صحيح ويراد به باطل في نفس الوقت. فالموازنة تتضمن نفقات تساوي حوالى 25 ألف مليار ليرة فلماذا انتقاء السلسلة التي تساوي ألفاً و200 مليار للحديث عن تمويلها. وإذا أخذنا الرأي الذي يقول إنها “إنفاق جديد” فإن هناك بنود إنفاق جديدة كثيرة (بالمبدأ كل البنود جديدة لأن لا موازنة منذ أكثر من 10 سنوات!) وأبرزها الإنفاق الاستثماري، فلم لا يركز أن الزيادات الضريبية هي لتمويل هذه الاستثمارات مثلاً؟ إن هذا الربط بين الضرائب والسلسلة ما هو إلا جزء من الحملة المعادية للسلسلة والمعادية لحقوق الموظفين وكل عديد الدولة اللبنانية ولإيهام الناس أن الضرائب الجديدة عليهم هي من أجل زيادة أجور القطاع العام، وبالتالي تحويل الصراع إلى صراع بين الشعب وموظفي القطاع العام “الجشعين والكسالى” بدلاً من أن يكون من بين أكثرية الشعب وحفنة من الريعيين الخاملين فعلياً الذين راكموا الثروات من استدانة الدولة لأكثر من 25 عاماً.

ثالثاً، عطفاً على ذلك فإن تلك الحملة تترابط مع حملة ضد القطاع العام وكبر حجم الدولة. وهنا السؤال يطرح نفسه ما هو معيار قياس حجم الدولة؟ ففي لبنان حجم الدولة “صغير” من ناحية تملكها لوسائل الإنتاج ومن ناحية التوظيف فحوالي 70 بالمئة من ملاكات الدولة شاغرة والدولة تفتقد إلى الكادر التقني للقيام بمهامها على جميع الصعد. أما الدولة فهي “كبيرة” من حيث حجم استدانتها إذ يبلغ دينها العام حوالى 150 بالمئة من الناتج المحلي وتدفع فوائد على هذا الدين ما يوازي حوالى الـ 10% من الناتج وهذا الدين تراكم نتيجة الإنفاق التوزيعي للدولة وبسبب خفض الضرائب على الأرباح والثروة وبسبب ارتفاع الفوائد على الدين العام واستفادة المصارف والمسثمرين الكبار من ذلك. إذاً، هناك “دولتان” الأولى كبيرة والثانية صغيرة أنتجهما تحالف الراسمال والقوى الطائفية بعد اتفاق الطائف: الدولة “الكبيرة” اعتاش عليها الريعيون أما الدولة “الصغيرة” فساهمت في تراجع دورها الفعال في الاقتصاد والمجتمع.

رابعاً، هناك نظريات عدة تطرح أيضا مثل أنه بدلاً من وضع ضرائب جديدة علينا زيادة حجم الاقتصاد، وبالتالي تحصل الدولة على واردات جديدة من دون زيادة الضرائب (وكأننا لا نستطيع فعل الأمرين سوية)؛ وهذا ما طرحه أيضاً وزير الاقتصاد قائلاً إنه يمكننا خفض العجز التجاري بـ 5 مليارات دولار. هناك طريقة واحدة عبر الاقتصاد الحر لفعل ذلك بسرعة وهو عبر خفض سريع للاستيراد ورفع التصدير، وهذا يتم عبر خفض كبير في قيمة العملة اللبنانية وهذا بالطبع ما لم يقله أو يقصده الوزير. أما السبيل الآخر إلى ذلك فهو من خارج الاقتصاد الحر أي عبر خطة صناعية شبيهة بالخطط في بلدان مثل كوريا الجنوبية تؤدي إلى زيادة التصدير في لبنان بـ 100% مع بعض التخفيض في الاستيراد بحوالي الـ 10%، مما يستدعي أن نزيد إنتاج الزراعة والصناعة حوالى الـ 60%! بالتالي هذا أمر طويل الأمد ولا يمكن أن يطرح أصلاً لحل مشكلة مالية للدولة أي “بدلاً من أن نفرض ضرائب”. طبعاً نحن من أشد المؤيدين لهذه السياسة ولكنها تعني تغيير النموذج الاقتصادي الحالي بما يعنيه من وقف التشدد النقدي واتباع حمائية انتقائية ودعم للصناعة وتكبيل الريعيين والتجار والاحتكار الذي يعيش على الاستيراد. وهنا يأتي دور البورجوازية المتنورة ودورها التاريخي والتي نفتقدها في لبنان. وهنا لا بد من التذكير أن فقدان هكذا بورجوازية في الصين أدى الى أن الحزب الشيوعي يأخذ هذه المهمة على عاتقه في إدارة الرأسمالية مؤقتاً نحو الاشتراكية وهنا أنصح البعض بقراءة كتاب لوريتا نابوليوني “لماذا الشيوعيون الصينيون هم رأسماليون أفضل منا”، مع التحفظ على عنوانه، ففيه الكثير من العبر.